نوبل الأدب : ما كان وما ينبغي أن يكون

سابقةٌ مؤسفة تلك التي أعلنت عنها لجنة جائزة نوبل عندما أكّدت خلوّ لائحة نوبل لهذا العام 2018 من جائزة الأدب وترحيلها للسنة القادمة، وترتّب على هذا الإجراء غير المسبوق خفوتٌ وتراجع في الرهانات -الأقرب لرهانات سباق الخيل- عمّن يكون صاحب الحظوة في فتح مغاليق مغارة “افتح يا سمسم” الأدبية الممهورة بتوقيع نوبل والتي ستكفل للفائز شهرة غير مسبوقة مع الامتيازات المالية المترتّبة عليها.
لست هنا في معرض التعليق على الحيثيات المعيبة والمخلّة بالأخلاقيات الإنسانية المشتركة التي رافقت الإعلان عن تأجيل نوبل للأدب لهذا العام، ولست معنية كذلك – لا قليلا أو كثيرا- بغياب سوق المراهنات الأدبية التي تصدع رؤوسنا كلّ عام؛ لكني سأتناول هذه الموضوعة من زاوية محدّدة تختصّ بطبيعة العلاقات الإنسانية المشتبكة التي تشكّل الأساس الذي تقوم عليه البنية التحتية لكلّ من العلم والأدب، تلك البنية التي تراكمت عبر التطوّر وصارت جزءا عضويا في هيكلية تأريخ الأفكار الإنسانية.
تتمحور الموضوعة الخلافية التي أريدها مدخلا لتأشير الخلل الخطير الذي أصاب نوبل الآداب -والجوائز الأدبية بعامة- في معيار النزاهة المؤسسة على قدر كافٍ ومتفق عليه من الموضوعية في تقييم كلّ من الإنجازات العلمية والأدبية، وهنا سيسارع الكثيرون لتأكيد تلك المقولات الشائعة بشأن “موضوعية العلم وذاتية الأدب”، التي لم تعُد تُحسَبُ سوى مقولة رثّة عتيقة يتعكّز عليها بعض قليلي الموهبة والعمل الجاد في محاولة تمريرهم لأعمال تفتقد الحدّ الأدنى المقبول من الرصانة.
ونعرف تماما أنّ الكثير من العلماء هم فلاسفة وأدباء رصينون تعاطوا الأدب في أكثر أشكاله الرفيعة وأثروا المدونة الأدبية بإنجازات رائعة، والحقّ أنّ المتعاطين الجادّين للحقول العلمية يدركون أنّ العلم يتطلّب قدرا من التخييل الخلاّق لا يقلّ أبدا عن ذلك الذي تتطلبه الحرفة الأدبية، وفي الوقت ذاته يتوفّر أدباء اليوم على معرفة علمية جادة صارت لازمة ضرورية لكلّ إبداع أدبي يسعى لأن يكون بصمة مؤثرة في عالمنا المعاصر.
إنّ أصل الإشكالية في نوبل الأدب ليس ذا علاقة بطبيعة التأسيس المفاهيمي لكلّ من العلم والأدب؛ بل يعود إلى نمطية مختلّة في نزاهة شبكة العلاقات التي تشكّل البنية البيروقراطية لكلّ منهما: لو أعملنا ذاكرتنا في إحدى جوائز نوبل غير الأدبية عبر السنوات السابقة لرأينا غياب مزادات التصويت للأسماء المرشّحة؛ بل ثمّة على العكس شبه إجماع على الأسماء المستحقّة للفوز في حقول الطبّ والفيزياء والكيمياء والاقتصاد – باستثناء جائزة السلام التي ستظلّ مثلبة لن تسلم منها نوبل-، وواضحٌ أنّ وراء تسخين مزادات الخيول الأدبية شبكة من دور النشر والعلاقات التجارية المحكومة باعتبارات التوزيع وتحقيق أقصى الأرباح المرتجاة.
قد يراودنا التساؤل أحيانا: هل ثمّة من وسيلة تكون مصدّاً واقيا من صعود الأعمال الهزيلة أو غير المستحقة لشهرة نوبل الأدبية أو سواها من الجوائز الأدبية المرموقة؟ سيتفنّن الكثيرون في تصميم وسائل وآليات يحسبونها قادرة على حجب الغثّ وترسيخ الرصين؛ لكنّ الضمير النقيّ المستند إلى المروءة المنزّهة من سطوة المال هو ما ينبغي التعويل عليه في النهاية، وكم آسف إذ أدركُ أنّ ذلك الضمير لم يزل غير راسخ في ضمائر النوبليين الأدبيين على العكس من نظرائهم في فروع الجائزة الأخرى، ولا نملك سوى انتظار ما ستجود به المغارة النوبلية الأدبية في السنوات القادمة.