التنازع على التركات

نحن نتعلّم وعي الموت تدريجيا، نكتسب مع مرور الزمن وتخطي عتبات منتصف العمر، مهارات التأقلم مع مباغتة الفقد، تغدو المفاجأة في كل مرة أقل إدهاشا وإيلاما، وشيئا فشيئا نسلّم بضرورة تخفف هذا الأديم من الناس وصخبهم وتهديدهم لاستمرار العالم، من أهل وأصدقاء ومعارف وأعداء لدودين أيضا.
وفي حقل الكتابة والتشكيل والسينما يغدو الفقد مقاما للارتقاء درجات في سلم وعينا للاستمرارية وإدراكنا لجدل الحضور والغياب، التذكر والمحو، لإنضاج التعبيرات الفنية وتحويلها من لحاء بلاغي أجوف إلى دفق معنوي قد يصمد أمام جبروت الزمن.
يعلمنا الموت كيف ننتج اللغة والأسلوب بوصفنا أفرادا، ويلقننا سبل إدخال الحياة إلى الألفاظ، مادام العبور حتميا، فلا يمكن أن نموت في كلماتنا وصورنا قبل الأوان، وأن نتخفف تدريجيا من فتنة الأداة، تلك التي لا تنتج إلا رفات صور. وأن نتعفف في النهاية عن تركات المغادرين (أقارب ومعلّمين) مهما علا شأنها وعظمت أنصبتنا فيها.
حين نتعلم أبجديات الموت ننتج المواطنة التعبيرية وننتمي للرحلة رحلة الحياة، ولمركبة السفر، أي المجتمع، فنكون داخل الناس، بالانتصار لوجيب فعلهم وانتهائهم، لهذا أسوأ شيء في رحلة التعلم المسترسلة تلك أن تعتقلنا الذاكرة الجماعية ونغتال التوق إلى الاستقلال ومجاوزة الضرورة، بالاستسلام لسكينة المأساة العاطفية، ونكف عن امتلاك هوياتنا بما فيها من تفاصيل الزيغ الإنساني الأصلي، المنتج لبصمات الأسلوب، وما هو مجبول عليه من عمق شيطاني.
ولأن الموت هو دوما فرصة لتصفية الحساب، فإنه أيضا المجال الأبشع للتنازع على التركات، ذلك ما يقع في حقل الخيرات الرمزية ومنها الكتابة، على نحو رهيب، يذكرنا بأن من يغادر ينتهي إلى مقام مريح، يتخفف فيه من شهوة التحقق والانتشار ومراكمة الأوسمة، وينعتق من الحظوظ والملكيات، لهذا لم أعد أستسيغ مع مرور الزمن تلك الشراهة الفاجعة نحو تنازع المأثورات بعد مغادرة الكتاب، والسعي إلى التماهي مع كلامهم ونصوصهم ووجوههم الافتراضية، واختلاق قرابات متخيّلة تسوغ حيازة النصيب المزعوم.
والحال أن أكبر سبة يمكن أن تلحق بكاتب أن يقال عنه “ولد بار”، له نصيب في تركة ما، قد تكون مجرد مفردات تبدو لي ذمّا براحا وابتغاء للحجب والأردية التي تطمس الملامح.
لقد كنت دوما أجلّ تلك الروح النقدية التي تجعل الكتابة خارج الأنساب والعواطف، وتمجد الاختراقات الفردية، وتنفلت من شرنقة القرابة، المرتهنة لنزعة “التراحم” (بتعبير المرحوم عبدالوهاب المسيري) تلك الروح وحدها التي تحول دون تقبل الإفلاس وحمد الله عليه.
كاتب مغربي