أربعون سنة صحافة

رحلة طويلة وصراع أزلي بين الخير والشر يتعايشان بين جدران المؤسسات الإعلامية، لم تحسم نهايتها بالضربة القاضية لصالح فريق دون أخر.
الاثنين 2018/02/12

مضت بأسرع مما تخيلت، تلك الرحلة المبهرة، منذ اجتياز عتبة قسم الإعلام بجامعة بغداد طالباً بارزاً فيه، حيث تُعلق المقالات والتحقيقات، على جدارية الآداب، ويقرأها العشرات كل يوم أو حين تخطيت مُدرجات صحيفة الجمهورية البغدادية في دار الجماهير للصحافة، لربع ما أمضيته في المهنة، لأجدني بين نجوم الصف الأول في الصحافة العراقية، وكأنني دخلت ورشة من ورش صناعة الرأي والثقافة والفنون في البلاد منتصف السبعينات من القرن الماضي، أيام العز العراقي، كنا لا نحلم بشيء إلا وقد تحقق، كنت أشعر بحلاوتها وسحرها؛ تلك الصحافة، وأسخر ممن يقولون عنها إنها “مهنة المتاعب”.

ومع تتابع الأيام والشهور والسنين، وتوالي المصاعب والخسارات والنكبات، واختلاط الدموع بالضحكات، وجيوش الصرعى في الحروب، وتوالي قصف المدن وضياع أحلام السبعينات الخالدة، ومرأى الجيوش والعربات ناقلة الجنود وسَوق المجندين إلى الجبهات، لم تعد تقوى أن تكتب عن الفرح المزعوم، تراكمت تلك المشاهد وتوالت صور الموت المرافقة لشارات النصر، وحاصرت اللافتات السوداء الجدرانَ، والشوارعَ، وهي تشيّع أبناء العراق وخيرة شبابه، لتعلن عن رحيلهم، حتى امتلأت مقابر الوطن الذي كنا نرسم فيه صورة أمة في الجامعات الغاصة بالطلبة العرب.

تبخّر كل شيء حتى لحظة الحصار الطويل الممل وصور المفتشين الدوليين ثم غزو البلاد واحتلالها، سكتت المدافع والقاذفات بعد أن دمرت المدن ولكن لم تسكت لعلعة شواجير البنادق بعد.

مازلت تشمّ عبير بقايا وطن، لتكتب عنه بذاكرة موشومة بالطلقات.

والصور الموحشة له ولضحاياه وشهدائه، تحث الناس على ألّا ينسوا وطنهم حيث يكونون، ويحلون ويرتحلون، وتردد درساً مزعجاً تعلمته “ليس كل ما يعرف يقال”.

وفي الصحافة هناك إدراك خفي بأن هذه المهنة قضية وقدر لمن يسير فيها ويسايرها، تلصق فيه كتهمة سحرية، لن تفارقه طيلة عمره، وقد يضع رأسه على وسادة الموت ويتمنى يوماً آخر ليكتب فكرة مازالت تجول برأسه.

 رحلة الصحافة التي أمضيتها فيها مزاوجة بين قاعة الدرس والتعلم والتعليم، والعمل الميداني، والنقابي، مررت فيها بعشرات الوجوه من العاملين في بلاطها، بعضهم يتعامل بكبرياء صاحبة الجلالة، وآخرون يتوسلونها طريقاً للشهرة والمال، بكميات هائلة من النعوت التي يُسبغونها على ممدوحيهم.

رحلة طويلة وصراع أزلي بين الخير والشر يتعايشان بين جدران المؤسسات الإعلامية، لم تحسم نهايتها بالضربة القاضية لصالح فريق دون أخر، لكنك لا بدّ أن توقد شمعة لتنير طريق المهنة التي لا مناص من التسليم بأنها “مهنة المتاعب” كي تواصل.

كاتب عراقي

18