سكيزوفرينيا المهاجرين الديمقراطيين بأوروبا
يخاطر الآلاف من التونسيين بأرواحهم في البحر للوصول إلى أوروبا بينما تستقر هناك أجيال منذ بداية الهجرات المنظمة في ستينات القرن الماضي. وهؤلاء يشكلون معا اليوم ما يزيد عن 10 بالمئة من الشعب التونسي، أي حوالي مليون و100 ألف نسمة، أكثر من 80 بالمئة منهم يعيشون في أوروبا.
بعد سنوات من الاستقرار خارج الوطن يجد التونسيون في الداخل وفي زمن الديمقراطية اليوم، صعوبة في فهم ما يتطلع إليه مواطنوهم في المهجر تجاه بلدهم الأم.
من بين هؤلاء المهاجرين نخبة من السياسيين والأكاديميين والكفاءات عالية التكوين، بالإضافة إلى معارضين فروا منذ عقود من الدكتاتورية وحكم الحزب الواحد في بلدهم، بحثا عن الديمقراطية وحرية التعبير في بلد المهجر بأوروبا.
المعضلة الرئيسية في كل ذلك أن ما راكمته هذه النخب المهاجرة بمختلف مشاربها من تجارب الحياة والمواطنة الكاملة وسط ديمقراطيات عريقة، لا تعكس تطلعاتها في أغلبها بالضرورة التجارب نفسها تجاه بلدها الأم.
بل إن المفارقة الكبرى تكمن في أنه بقدر صراخ هذه الشريحة المهاجرة وشكواها من منغصات اليمين المتطرف بأوروبا عبر استهدافها بموجات الخطاب الشعبوي، فإنها لا تجد حرجا في دعم اليمين الأكثر تطرفا وخطرا في بلدها الأم، والقصد من ذلك الفاشية الدينية.
بالنسبة للمتخصصين في دراسة التطرف وأسبابه العميقة، قد لا ينظر إلى تجارب الدهس مع أنيس العامري في برلين ومحمد بوهلال في نيس، أو الطعن مع أحمد الحناشي في مرسيليا، كحالات معممة وسط الجاليات المهاجرة ولكنها تبعث بإشارات واقعية عن اتجاهات الرأي السائدة في أوروبا.
ويمكن ملامسة تلك الإشارات بشكل واضح في منصّات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والأحزاب والمجتمع المدني المهاجر. ولعل الجانب الأكثر وضوحا في ذلك هو المناسبات الانتخابية ونتائج الاقتراع للجاليات المهاجرة في الدوائر الانتخابية الأوروبية.
ففي أول انتخابات ديمقراطية بتونس عام 2011، أي بعد أشهر قليلة من سقوط نظام الحزب الواحد، خرج الإسلاميون من القمقم واكتسحوا جميع المقاعد المخصصة للجالية في أوروبا، أساسا في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، علاوة على فوزهم الكاسح بتونس.
ثم على الرغم من انتكاستهم في الحكم والاحتجاجات الشعبية التي عمت البلاد ضد حكمهم عقب الاغتيالات السياسية وأعمال العنف الممنهج لما عرف برابطات حماية الثورة والجماعات المقربة من حركة النهضة الإسلامية وحليفها اليميني الرئيس السابق المنصف المرزوقي، فإن الحركة عادت لتفوز في انتخابات 2014 بالمقاعد مناصفة مع الحزب الأول حركة نداء تونس في الدوائر الرئيسية ذاتها بأوروبا.
وتكشف المقارنة بين نتائج انتخابات 2011 و2014 أن الإسلاميين لم يخسروا عمليا مقاعدهم بخلاف مقعد وحيد في ألمانيا، وهو المقعد الذي استعادوه بعد ثلاث سنوات بأصوات المهاجرين عبر انتخابات جزئية معادة، وإن كان بمرشح مستقل في الظاهر لكنه هو الآخر قادم من أقصى اليمين، ويعلم الجميع أنه مقرب من النهضة وقواعدها وحليف علني للرئيس السابق المنصف المرزوقي.
ويعني هذا أن الإسلاميين يحافظون حتى في أسوأ حالاتهم على القواعد الوفية وعلى انتشار مهم في قلب أوروبا. وهذا الانتشار يضع الكثير من الأسئلة على السطح، إذ تعطي الانتخابات مؤشرا نسبيا على ما يدور بخلد تونسيّي المهجر خاصة المقيمين في أوروبا، تجاه وطنهم والنموذج الذي يحلمون به في الجمهورية الثانية بعد ثورة 2011.
فوز المدون اليميني يكشف في جانب منه عن سكيزوفرينيا المهاجرين في أوروبا والذين يرفلون بنعيم الديمقراطية والمواطنة بينما يصدرون نموذجهم اليميني إلى بلدهم الأم، وهو أمر قد يستدعي فهما سوسيولوجيا أوسع يتجاوز مسائل الاندماج والتشتت القيمي في بلد الهجرة.
ولكن تضع هذه السكيزوفرينيا أيضا الطبقة السياسية التقدمية والليبرالية في تونس أمام مستقبل خطير ومجهول قبل أشهر قليلة من الانتخابات البلدية التي قد تحدث منعرجا آخر تمهيدا للانتخابات التشريعية والرئاسية في أفق 2019.
فعليا لا تغير نتائج الانتخابات الجزئية بألمانيا من المعادلة السياسية الحالية في تونس لكنها تحمل بلا شك الكثير من الدلالات بشأن اتجاهات الرأي المعاكسة في أوروبا الديمقراطية. كما تؤشر على تحول دراماتيكي في الانتخابات المقبلة قد يعيد تونس إلى المربع الأول للاستقطاب والعنف السياسي الذي ساد في الفترات الممتدة بين 2011 و2014، أيام تحالفِ الإسلاميين مع أقصى اليمين بقيادة الرئيس السابق المرزوقي في السلطة، أحد المتحفزين اليوم لذلك المربع.
كاتب من تونس