الصراعات السياسية وارتداداتها على العمل البرلماني
الساحة السياسية في تونس كالقدر تغلي منذ أمد بعيد، ويتراءى للملاحظ العابر والدارس المتمعّن معا أن السياسيين في تونس يبحثون عن التوليفة الأشمل والأكمل ليبنوا عليها ملامح الحاضر الراهن والمستقبل بمداه القريب والمتوسط وحتى الاستراتيجي والاستشرافي.
منذ وثيقة قرطاج والتي أفرزت حكومة يوسف الشاهد الموسومة بـ”حكومة الوحدة الوطنية” والشعب التونسي بكل فئاته وشرائحه ينتظر تجسيدا لهذه “الوحدة” والتي قيّسها الملاحظون بكونها المخرج الوحيد والموضوعي للأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تعانيها البلاد.
مجلس نواب الشعب مثّل الإطار الديمقراطي الأكثر أهمية في مسيرة الديمقراطية الناشئة منذ اندلاع الثورة في يناير 2011.
هذه المؤسسة برمزيتها وأدوارها لم تعد ممثلة لأطياف الشعب على اختلاف مناطقهم ومواقعهم وانتظاراتهم بل أضحت وللأسف مؤسسة الحسابات الحزبية الضيقة والتكتلات الانتخابية والإقصاء المتعمّد للأقلية البرلمانية، فهي النموذج الأمثل للقدر التي تغلي دون هوادة. كل التكتلات والائتلافات والتوافقات التي ما انفك يدافع عنها الشيخان بكل شراسة؛ الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة والشيخ الباجي قايد السبسي رئيس الجمهورية، لم تجد بعد طريقها إلى الصمود والاستمرار لأنها ليست سوى شعارات رنانة.
مجلس نواب الشعب ومن ورائه العمل البرلماني والذي سينعكس حتما على المشهد السياسي مقدم على تقلبات جديدة تشي بصراعات جديدة من أجل التموقع.
التأم بالبحيرة مؤخرا لقاء ثلاثي بين حافظ قايد السبسي المدير التنفيذي لحركة نداء تونس وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة وسليم الرياحي رئيس حزب الاتحاد الوطني الحر الذي أعيد إلى دائرة السياسة وهو الذي مزق سابقا وثيقة قرطاج وأعلن انسلاخ حزبه من حكومة الوحدة الوطنية، مع أنه تحت طائلة تتبعات عدلية كثيرة أبرزها تُهم بتبييض الأموال وشيكات دون رصيد.
لم يُرجع سليم الرياحي إلى بيت الطاعة لسواد عينيه أو لوزنه السياسي في البلاد، فالغاية واضحة وهي؛ أولا ضمان ترشيح محمد التليلي منصري، مرشح النهضة والنداء، لرئاسة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات وهو ما تم التصويت عليه بالفعل تحت قبة مجلس نواب الشعب، ثم ثانيا وهذا هو الهدف غير المعلن الذي يتمثل في تأكيد أو إعادة التموقع في الخارطة السياسية وفي المشهد القادم ما قبل انتخابات 2019 وكأن الجماعة انخرطوا فعلا في حملاتهم الانتخابية وأولها تثبيت رئيس للهيئة يكون محل توافق من الحزبين الكبيرين في البلاد دون اعتبار لـ”الصغار” لأن العملية تُحسب وفق عدد الأصوات في الكتل البرلمانية.
سليم الرياحي انسلخ عن رئاسة جمعية النادي الأفريقي واحتمى بظل الشيخين لسببين اثنين؛ ضمان العودة للأضواء السياسية والتي لن يقدر عليها دون مباركة النداء والنهضة وهو الذي كان عدوّهما وإلى زمن قريب، ثمّ “طلب الشفاعة” لعل المسائل القضائية التي تلاحقه تجد طريقها إلى الحل وكل هذا لا يخرج عن طريق البراغماتية التي نادى بها طويلا ولنكون أكثر دقة في استعمال المصطلح “الانتهازية”.
في مقابل هذا التحالف الثلاثي الجديد؛ النهضة والنداء والوطني الحر، هناك جبهة أعلن رسميا عن تشكيلها الأربعاء من الأكيد أنها ستكون الجبهة المعارضة لأحزاب الحكم والداعمين لها، ومن أبرز المشاركين في هذه الجبهة البرلمانية نواب ينتمون إلى كتل الحرة لحركة مشروع تونس وآفاق تونس والكتلة الوطنية وكتلة نداء تونس ونواب مستقلين. ومما لا شك فيه أنها ستكون طرفا في الصراع البرلماني الشرس.
في هذا الخضم، من يدعم الشاهد ومن يعارضه؟ لخبطة تعيشها الحكومة وسط هذه التجاذبات المتحولة دوما. نداء تونس وهو من المفروض يمثل الظهير الحزبي للحكومة. هل بإرجاعه سليم الرياحي إلى دائرة الضوء يدعم حكومة الشاهد؟ السؤال شديد الضبابية والغموض: وراء الرياحي قضايا وتجميد لأمواله ومنع من السفر والحكومة شعارها الأبرز في الفترة الأخيرة محاربة الفساد، وهذا التحالف الجديد سيضر حتما بسعي الحكومة لإتمام مهمتها والقضاء على دابر الفساد.
يتضح أن الشاهد يُدعم متى كان ذلك في إطار الأجندة السياسية للأحزاب المتنفذة ويترك أمام ما تفرضه التحولات في رؤى الأحزاب واستراتيجياتها المستقبلية.
إذا فقد البرلمان وظيفته الحقيقية والأساسية وهي السهر على تنفيذ البرامج في مختلف المجالات والتي تسعد الجماهير التي انتخبت أعضاءه، فإنه سيصبح، إن لم يكن الأمر قد حدث فعلا، لا محالة مدافعا عن المصالح الضيقة للأشخاص وللأحزاب ولداعمي الأحزاب وهذا الأمر لا يمكن أن يشهد استقرارا لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا اجتماعيا. إذن فبرلماننا الموقر ليس إلا حلبة من حلبات الصراع السياسي، وإذا كانت هذه سمة “الديمقراطية” فلنطلّق السياسة ليستمر الحال وفق “ديمقراطية الإنسان” بقطع النظر عن الاختلاف.
كاتب تونسي