عدنا إلى الأمية

الثلاثاء 2017/09/19

الناس، فقيرهم وغنيهم، يحتاجون اللغة ويعرفون استخدامها ولو بتفاوت في القدرات. بائع الخضروات ومحافظ البنك المركزي يستخدمانها بطلاوة كل حسب اختصاصه. الأول يشيد بالباذنجان الذي لديه ونضارته، والثاني يجمّل في عيون الناس خفض أسعار الفائدة. وكلاهما يخفيان الحقائق بالطلاوة وذرابة اللسان ولكن أولا وأخيرا باستخدام اللغة.

أتذكر دوما عبارة للدبلوماسي الفرنسي العبقري تاليران إذ يقول “لقد اخترع الإنسان اللغة لكي يخفي أفكاره”. لو كنا من دون لغة لفضحتنا نظراتنا وتعابير وجوهنا ولما كذب أحد على أحد. “الصب تفضحه عيونه” كما تقول أم كلثوم. وهناك شيء اسمه “الفراسة” وهي معرفة تقوم على تكذيب اللسان ومطالعة الوجه والحركات والتعابير وحركة العينين وما إلى ذلك.

على أي حال، اللغة اختراع ناجح. وأدت إلى اختراع ناجح آخر وهو الكتابة. هذه اختراعات لا يفكر فيها أحد لأنها ناجحة تماما. الاختراع الناجح يكون منسيا ومهملا لأنه ضروري ومستخدم كل يوم إلى حدّ الابتذال وضياع الاندهاش.

القراءة والكتابة وفدت على اللغة متأخرة لتسهيل التدوين. عاشت اللغات قرونا عديدة في مجتمعات تسودها الأمية. ولا يزال عندنا ميل طبيعي للكلمة المنطوقة والمسموعة. وهناك اليوم تقنيات تسهل التواصل دون كتابة. وبعد أن أنفقت البشرية جهودا في استنباط التدوين، ألاحظ أننا عدنا إلى عصور ما قبل التدوين. هناك، مثلا، كاتب مشهور اسمه محمد حسنين هيكل وهو كاتب بارع، لكنه قضى سنواته الأخيرة دون كتابة بل راح يتكلم فقط. تراه في قنوات التلفزيون محاورا مخاطبا لكنه لا يكتب. بعد أن كان يكتب ونحن نقرأ، صار يتكلم ونحن نسمع، ضمن عودتنا المباركة إلى عصر الأمية.

الكتابة والقراءة تذهب وتجيء لكن اللغة ثابتة. وهناك نظريات كثيرة حول نشأة اللغة وكيف توصل الإنسان إلى إجماع في كل بيئة على أصوات معينة وكونها تشكل كلمات ذات معنى. النظريات كثيرة كما هو متوقع. لكن هناك نظرية واحدة تعجبني وأتمنى أن تكون هي الحقيقة. التصور هذا لبدء اللغة وضعه شخص متعدد المواهب لكنه سفيه.

اسم صاحب النظرية مايك هاردنغ. يقول إن الإنسان كان صامتا وليست عنده لغة. كان يعيش على الأغصان في مجمعات يطبق عليها الصمت. وفي ذات غروب وبعد قرون من الصمت نطق واحد ممن يجلسون على الأغصان. نطق أول كلمة وكانت “ضجرت”. وفجأة نطق الجميع قائلين “وأنا أيضا”. ثم ساد الغابة والأشجار لغو وضوضاء. ألم أقل لكم إنه سفيه وأنا أتمنى أن يكون محقا.

24