لاحتفالية الأضحى مقاصد ونوايا
يرافق مناسبة عيد الأضحى شعور مزدوج غريب بالفرحة والاستبشار من ناحية وبالفقد واليتم والضياع من ناحية ثانية. ولا أظن بأن الاحتفال بالعيد المبارك لا يخلو من شجن لدى كل الأشخاص والأسر في العالمين العربي والإسلامي، لأنهم يتذكرون دائما في مثل هذه المناسبة أعزّاء على قلوبهم فقدوهم دون رجعة، ويسترجعون ماضيا تولّى في مفارقة عجيبة، وهم ينظرون إلى المستقبل مجسدا في فرحة أبنائهم البريئة.
فحال العرب والمسلمين ساءت كثيرا وسالت وديان من الدماء نتيجة السحل والقتل والتهجير والتنكيل، ولا يمكننا ألاّ نتذكر، في هذه المناسبة الدينية، حال الأسر المهجّرة في الملاجئ الموزّعة في أنحاء العالم، كيف سيكون عيدها وعيد أطفالها المشردين؟ كيف لنا أن ندخل الفرحة في قلوب صغارنا وننسى فاقدي السند والمهجّرين قسرا عن أوطانهم؟
ورغم ما يمكننا استذكاره من معاناة بشرية في أصقاع الأرض، إلا أنني أتساءل باستمرار: هل الاحتفال بعيد الأضحى لا يزال يحتفظ ببعده الديني ورمزية التضحية فيه، أم أصبح مجرد مناسبة اجتماعية شعبية لجمع شمل الأسر التي تجافت بفعل الظروف التي تعيشها في الزمن الراهن؟
المعنيان يتعانقان ولا يتنافران رغم اختلاف زوايا الرؤية لدى كل أسرة بحسب معتقداتها الفكرية وتوجهاتها الأيديولوجية ومقدرتها الشرائية أيضا. كلهم يتلهفون لاقتناء الأضحية وقد يشقون من أجل ذلك ليفرحوا أطفالهم ويتباهوا أمام الناس من حولهم. وفي حالات عديدة لا يعبأ الناس بالمعنى الفقهي لجواز الأضحية من عدمه، فيلجؤون إلى الاقتراض من البنوك أو من الميسورين منهم، ما يساهم حتما في انخرام ميزانية الأسرة لأشهر عديدة بعد المناسبة.
هذه التصرفات وإن كانت غاياتها نبيلة وهي إدخال الفرحة والسرور في نفوس الصغار وتجديد المشاعر الإيجابية لدى الكبار، فإنها محرّمة دينيا وفقهيا ولا تجوز الأضحية إذا لم يكن ثمنها من فائض الميزانية الأسرية، ومن الضروري أن يذهب ثلثها صدقة للعائلات الفقيرة. كل هذا أصبح ثانويا في نظر السواد الأعظم من الناس لأن البعد الديني سائر نحو التقلص، رغم موجة “التدين” اللامسبوق التي تشهدها المجتمعات العربية والإسلامية، بحكم التهافت من ناحية، والتقليد الأعمى والتباهي من ناحية ثانية.
عيد الأضحى من المناسبات المميزة في حياة الأسر لأنها تساهم في ترميم العلاقات الاجتماعية والإنسانية التي أصبحت تتسم بالفتور واللامبالاة على مستوى العلاقات بين أفراد الأسرة الواحدة أو العلاقات بين الأسر بحكم الروابط الدموية أو روابط المصاهرة أو الجيرة أو الصداقة.
المهام اليومية الأسرية تتغير بالنسبة إلى كل فرد، حيث تتسم بالتعاون على الذبح أو التنظيف أو تحضير مأدبة الشواء التي لا يكون العيد عيدا إلا إذا التأمت في حميمية وودّ لا نلمسهما سائر الأيام. بهذا المعنى يكتمل التلاقي بين البعدين الديني والاجتماعي، ويتوطّد بتكثيف المعايدات الأسرية في مظهر فريد من التسامح والتراحم وتقاسم الأفراح. لماذا لا تكون سائر أيامنا أعيادا كبهجة الأطفال بخرفان العيد قبل ذبحها، وهم يجوبون بها الأزقة والأنهج في مشهد احتفالي نعجز عن توصيفه؟
أما المظهر السيء للاحتفال بعيد الأضحى فيتجلى بعد انقضائه، مئات الأطنان من الفضلات تتكدّس هنا وهناك في مشهد مقزّز يشوّه المظهر العام للمدن الكبيرة والمكتظة خاصة.
فالبطاح التي يشغلها الفلاحون والوسطاء على حدّ السواء لترويج خرافهم، في كل زاوية أو ركن يسمح بذلك، تعطّل السير وحركة المرور عند انتصابها وتشوّه المظهر العام للمدينة بما يُترك فيها من فضلات المواشي كريهة الرائحة.
أما الأحياء فحدث ولا حرج، حيث يعمد البعض إلى إلقاء فضلات الأضحية من دماء وفضلات الأعلاف والجلود والحوافر وغيرها في الطريق العام أو يضعونها كما اتفق في زوايا وأماكن غير معدّة لتجميع الفضلات أصلا، وتعمّ الفوضى.
أما الظاهرة الأغرب والأكثر تنافرا مع العيش الحضري هي إشعال النار في أوان كبيرة كأنصاف البراميل الحديدية، لنزع الصوف عن رؤوس الأغنام المذبوحة لتهيئتها للطهي بعد ذلك، ويقوم بهذا العمل أناس بمقابل، فتكسو سماء الأنهج والساحات غيوم داكنة من الدخان الأسود الكثيف، في مشهد نتمنّى ألا يعاد كما نتمنى معه انقضاء المناسبة.
فكلها مظاهر تعكّر صفو الفرحة بالعيد، دون أن يعلم الجميع -أو هم يتناسون- بأن عملا شاقا ينتظر عمال النظافة في البلديات، على قلّة عددهم وضحالة رواتبهم، فيضاعفون تعبهم وشقاءهم دون أن يتمكّنوا فعلا من تنظيف مخلفات الأضاحي بالسرعة والنجاعة المطلوبتين، ما يجعل تكدس الفضلات عبئا صحيا واجتماعيا على الجميع.
ولا ننسى بأن أهم مظهر ديني للعيد هو توجه الأغلبية إلى المساجد منذ موعد صلاة الفجر للذكر والتسبيح والمشاركة في صلاة العيد وسماع خطبة العيد أيضا، والأجمل في كل ذلك تواجد الأطفال ببراءتهم في المساجد فيكسبون هذه المناسبة بعديها الديني والاجتماعي.
كاتب تونسي