أصحاء ولئام
بيتنا محاط بالأشجار ومنطقتنا كلها أشجار غير التي في الحدائق. حديقتنا فيها أشجار، منها يصدر أوكسجين يكفي ثلاثمئة شخص أو أكثر وكذلك بيوت الجيران. كل بيت ينبعث منه أوكسجين يكفي لثلاثمئة إلى خمسمئة إنسان في حين يعيش في البيت الواحد شخصان. كل هذا يعني أن هناك وفرة في الأوكسجين وفي الأشجار وحتى الأحراش. الأشجار الكثيرة تعني إقامة مماش للبشر حسنة التبليط تلتوي وتمتد بين الأشجار والأحراش. المماشي بدورها والهواء المشبع بالأوكسجين يستدعيان الناس الأصحاء المتريضين من هواة الهرولة في الصباح والمساء أيضا.
هؤلاء الأصحاء أراهم كلما خرجت، أتضايق منهم ويتضايقون مني. الهرولة والحياة الصحية ترسم على الوجه البشري نظرة كراهية دائمة. الذي يركض يعاني من ألم طبعا، في عضلاته وعظامه، بسبب الإجهاد، ولسبب سايكولوجي بحت يحمّل أصحاب المشي الهادئ غير المتعب مسؤولية آلامه. شعاره في الحياة “أنا أتألم وأركض وأنتم لا تتألمون يا أنذال".
في زمن يبدو الآن سحيق القدم كانت القطارات فيها عربة للمدخنين. عربة كاملة مخصصة لغير الأصحاء. تقع هذه العربة في وسط القطار عادة. أذكرها جيدا وأذكر أنك حين تقترب منها، ومن على بعد عربة كاملة، تسمع ضحكا وأصواتا ماجنة وصاخبة. عربة المدخنين بصخبها تظهر تناقضا عجيبا مع بقية القطار ومسافريه. الأصحاء صامتون واجمون ووجوههم مكفهرة، يركزون على أوراق وصحف بصمت يعطيهم هالة من اللؤم. المفروض أن الحياة الصحية تطيل العمر لكن هؤلاء لا تطول أعمارهم. الذين أراهم يهرولون قد استعاضوا عن الترهل وكل ما هو غير صحي باللؤم والكمد وأظن أن أعمارهم ستنقص من كثر الكمد والغم الممزوجين باللؤم.
طالما فكرت في عربة المدخنين والبهجة المنبعثة منها. لا أجد تفسيرا لبهجتهم سوى أن المدخنين أساسا مخلوقات بهيجة وسعادتهم تأتي من الاستهتار. هم يعرفون أن التدخين مميت لكنهم يراقصون الموت. يكون الموت جالسا على طاولته وهم يذهبون إليه ويقولون له “هل تسمح لنا بهذه الرقصة”. الذي يراقص الموت لا يهتم لشيء، الذي يهتم لصحته مخلوق مهتم وبالتالي مهموم. والمدخنون أيضا مخلوقات متفائلة. يقرأون الإحصائيات حول إصابات المدخنين ويرون نصف الكوب الملآن. إذا قيل لهم إن التدخين يقتل أربعة في المئة من المدخنين سيقولون ولماذا لا أكون ضمن الستة وتسعين في المئة.
نلاحظ هنا أن الإنسان منحاز بطبعه. الذين يظنون أنهم ليسوا ضمن الأربعة في المئة من جهة الموت أو الأذى، يندبون حظهم السيّء مستغربين جدا من كونهم ليسوا ضمن الثلاثة في العشرة ملايين الذين يكسبون اليانصيب.