أسرار وفضائح
علمونا منذ الصغر: “إن العاقل كاتمٌ سرّهُ.. وإن الجاهل فاضحٌ أمره.. وإنّ المحترم نفسه يحترمه الناس.. وإنّ المهينَ نفسه محتقر”.. وعلمونا أن السر أمانة.. فمن استودعك سراً كمن أمّنك على مال أو على شيء ثمين.. فإذا لم تحفظه وتخفه وتحرص عليه فإنك إنما تخون الأمانة.. وإذا تفشي السر إنما تبدد المال الذي استودِع لديك.. ولذا فقد ارتبطت الأمانة وحفظ السر بالعقل وباحترام النفس والآخر.. مثلما ارتبطت خيانة الأمانة بإهانة النفس والآخر..
فكيف لنا أن نتعامل اليوم بهذه المفاهيم والمعايير القيمية الراقية ونحن نحاول أن نجعلها تتماشى مع إيقاع العصر السريع.. وزمن ثورة التقنيات المرئية والمسموعة؟..
كيف لنا أن نجعلها صالحة للاستخدام حين أصبحت لغة التواصل بين البشر لا يمكن أن تشبه ما كانت عليه قبل خمسة عقود مثلا؟.. (ولن أغالي لأصل إلى ما هو أبعد في تاريخ القيم وضوابط السلوك)..
أقول هذا وقد أصبح كل تحرك في حياتنا محسوبا ومفضوحا ويمكن لمن يشاء أن يعرفه ويتابعه ويرصده..
نستطيع اليوم أن نعرف إن كان أحد الأصدقاء نائما أو صاحيا.. متابعا لصفحته أو غائبا عنها.. مشغولا أو متفرغا.. يتحدث مع أحد أم أنه وحيد.. ومهما حاولنا أن نجيد التعامل مع تلك التقنيات المذهلة وحاولنا التحايل عليها بوضع من لا يعجبنا ولا نود أن يعرف بتحركنا على قائمة المحظورين مثلا أو بإلغاء صداقته أو حظر رقم هاتفه.. يفاجئنا آخر (صديق ربما أو عدو يلبس ثوب صديق) وهو يقوم بدور الجاسوس المجنّد لصالح ذلك الآخر الذي أتعبنا وأتعبناه!..
صار للصداقات معنى مختلف عما كان عليه.. وللحب شكل لا يشبه الحب الذي عرفناه وألفناه ومازلنا نتابعه في الروايات والأفلام.. وعلى الرغم من روعة تقنيات التواصل..
وعلى الرغم من أنها تمنحنا عالما من الجمال والفن والأدب والمتعة.. ناهيك عن آلاف الأسماء من صداقات محتملة وعلاقات اجتماعية يمكن أن تأتي بثمار حقيقية.. إلا أن مفهوم الأمانة وحفظ السر فيها صار ملتبسا وخاضعا لألف ألف احتمال..
لم يعد مفهوم الأمانة يقتضي مثلا عدم تصوير شخص في جلسة خاصة ونشر الصور على إنستغرام أو فيسبوك.. لم يعد مفهوم حفظ الأسرار يحتم على شخص ألا يفتح صفحة صديق أمام مجموعة لا علاقة لها به.. لتتفرج المجموعة على ما كان يحسبه الآخر سرا لا يباح به إلا للمقربين..
لم يعد ثمة معيار قيمي أو أخلاقي حقيقي يمنع من ارتكاب الكثير من الفضائح بقصد أو بغير قصد.. فبفضل تقنيات العصر الهائلة أصبح من السهل جدا أن يسجل أحدنا حديثا أو أن يصور محادثة أو تعليقا أو صورا خاصة شخصية أو فيديو وأن يرسلها لمن يشاء.. أو أن يرفعها للنشر فيراها الملايين..
فأي معيار وتحت أي مسمى حديث يمكن أن تندرج مفاهيم الأمانة والخيانة؟.. وهل أصبحت للخصوصية مفاهيم أخرى مثلها مثل الصداقات والحب؟ هل أصبحت الأسرار غير ذات قيمة مثلا إذ غدت الفضائح متاحة للجميع؟
ولكن دعونا نتفاءل قليلا.. ألا يمكن لهذا الباب المفتوح على أقصاه أن يهذب الصداقات ويعيد خلقها بعد حين.. لتكوّن مفاهيم خاصة بها فتغدو أعلى وأرقى ربما؟.. ويصبح للأسرار شكل جديد؟..
صباحكم مفاهيم جميلة..
شاعرة عراقية مقيمة في لندن