اليمين المتحفز على نهر الراين

الأربعاء 2017/05/03

مياه كثيرة تجري في نهر الراين قبل موعد الحسم في السباق الرئاسي إلى قصر الإليزيه. فعندما توجه الفرنسيون إلى صناديق الاقتراع في الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية كانت ألمانيا أكثر الدول المعنية ضمنا بما ستؤول إليه نتائج التصويت.

ألمانيا هي أحد ضلعي المحرك الأوروبي التقليدي مع جارتها فرنسا، وهو محرك طالما مثل قاطرة الاتحاد منذ إطلاق السوق الأوروبية المشتركة على أنقاض الحرب العالمية الثانية في عام 1957 بعد قرون طويلة من العداء التاريخي بين البلدين. ساعد التقارب السياسي والتوافق بين البلدين، كخيار حتمي لإعادة البناء الأوروبي، في مواجهة أبرز القضايا المصيرية التي واجهت الاتحاد في مختلف المراحل التي مر بها بما في ذلك ضربة “البريكست” الأخيرة.

وفي هذا الظرف بالذات يحتاج البلدان أكثر من أي وقت مضى إلى الإبقاء على ذات الوتيرة من الانسجام السياسي، لأن ضربة أخرى قد تضع مشروع الوحدة برمته في مرمى الشكوك وأمام مخاطر حقيقية.

يحتاج البلدان إلى جهود مشتركة للحفاظ على الاتحاد متماسكا اقتصاديا في مواجهة ارتدادات البريكست وأزمة اللاجئين ومعضلتي روسيا وتركيا على الجانب الآخر بجانب التحديات الأمنية. والأهم من ذلك تحجيم أي تطلعات لجيوب اليمين المتطرف في ألمانيا وفي مقدمتها “بيغيدا” المناهضة للأجانب والإسلام وقطع الطريق أمام أي دفعة محتملة لحزب “البديل” اليميني في استطلاعات الرأي قبل موعد الانتخابات.

صحيح أن أكثر ما كان يأمله الألمان وبخاصة التحالف المسيحي قبل انتخابات سبتمبر، هو أن تميل الكفة إلى مرشح “حركة السير إلى الأمام” إيمانويل ماكرون، الأكثر قبولا وانسجاما مع برلين إذا ما تمت مقارنته بباقي المرشحين، ولكن في كل الأحوال فإن مجرد رؤية مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان في المركز الثاني كفيل بأن يبقي ألمانيا وأوروبا على أطراف الأصابع إلى حين الدور الثاني.

حتى الآن نجحت جبهة “أوروبا الموحدة والمنفتحة” في سباق القفز على الحواجز إذ مرت الانتخابات الرئاسية في النمسا 2016 وبعدها البرلمانية في هولندا هذا العام بسلام برغم الصعود القوي لأسهم اليمين الشعبوي المعادي للأجانب في الغرب الأوروبي.

أولا تفادت النمسا إحراجا جديدا بسقوط مرشح حزب الحرية اليميني نوربيرت هوفر بعد سنوات قليلة من صعود سلفه الراحل مؤسس الحزب يورج هايدر، أبرز حاملي لواء النازية الجديدة في أوروبا.

لم تكن النمسا مستعدة للعودة إلى المربع الأول بعد أن نجح هايدر في السابق في إحداث اختراق تاريخي لليمين المتشدد بدخوله الحكومة عام 2000، الأمر الذي دفع الاتحاد الأوروبي آنذاك إلى إعلان عقوبات ضد النمسا بجانب موجة سخط دولية ضد فيينا.

لكن العالم تغير اليوم وهو أقرب إلى الانحراف الكبير لعقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي حينما سقطت الديمقراطيات في ذروة الأزمة الاقتصادية العالمية آنذاك، عبر صناديق الاقتراع والتعبئة. ويمكن توقع حجم التحول الدرامي لأوروبا اليوم في حال نسخ تجربة النمسا في بلد بحجم وأهمية فرنسا أو ألمانيا أو حتى إيطاليا.

في كل الأحوال لم يعد الحديث عن أوروبا ذات الوجه اليميني أمرا خارجا عن المألوف. لقد أصبح اليمين المتطرف جزءا من المشهد السياسي الأوروبي منذ سنوات وهو في صعود مستمر، بل وله حضور مهم في البرلمان الأوروبي عبر “تكتل أوروبا للأمم والحريات” الذي تقوده لوبان نفسها.

بالنسبة إلى الأحزاب اليمينية الشعبوية الصاعدة فإن مجرد أن تكسب أرضا جديدة في صفوف الناخبين والناقمين على السياسات الأوروبية، يعد بحد ذاته تقدما استراتيجيا مهما بغض النظر عن الفوز بالسلطة أم لا.

فالتيار الشعبوي يدرك أن هيمنته أوروبيا قد تحسم بضربة واحدة وفي غفلة من خصومه، كما حصل الأمر مع هايدر، إذ يكفي تحقيق فوز صريح في أحد معاقل الديمقراطية الرئيسية، لأن هذا السيناريو قد يجعل إمكانية اجتياح باقي القلاع أمرا ممكنا مع الاستفادة بشكل أكبر من قدراته في سياسات التعبئة والشحن التي يجيدها أكثر من غيره.

لهذا ما زالت ألمانيا تحبس أنفاسها حتى الدور الثاني للانتخابات الفرنسية. وحتى إن بدا ماكرون الأقرب إلى الإيليزيه فإن الفارق مع منافسته لوبان سيكون مهما جدا لتحديد هامش التحرك اليميني داخل ألمانيا قبل أشهر من انتخابات سبتمبر، وفي إيطاليا قبل انتخابات ديسمبر. وبشكل عام سيكون هذا الفارق محكا لتحديد بوصلة أوروبا وموقع اليمينيين على الخارطة السياسة واتجاهات الرأي.

صحافي تونسي

7