الإنسانيات.. بطالة وهدر للمال وتعطيل للتنمية

هل مازال المجتمع العربي يحتاجُ إلى دراسة وتدريس العلوم الاجتماعية؟ سؤال ما انفك يردده المشككون في جدوى بقاء هذه العلوم في مدارسنا وجامعاتنا العربية، ويتساءلون لماذا ندرسها طالما أن أسواق العمل لدينا باتت مكتظة بدارسيها الجالسين في المقاهي لا يجدون ما يفعلونه؟ أليس من الأنفع التركيز على العلوم التطبيقية، كالهندسة والطب والصيدلة والكيمياء والحواسب الآلية؟
يؤكد الرافضون للعلوم الإنسانية والاجتماعية أنها لا تضيف جديدا إلى خطط التنمية المطلوبة بشدة هذه الأيام في مجتمعاتنا العربية، وأصبحت مجرد استعراض للنظريات الفارغة والآراء العقيمة، ولا فائدة تُرجى منها، ولا تؤثر على أرض الواقع في شيء.
يقولون إن المواطن العربي لم يعد في حاجة إلى المزيد من الكلام، فقد شبع كلامًا، وإن ما يحتاج إليه خطط واضحة المعالم لتحقيق التنمية الاقتصادية، وهذه توفرها دراسة العلوم التطبيقية وعلوم الطبيعة.
يدللون على رؤيتهم تلك بأن معظم المتخرجين من كليات الإنسانيات، كالآداب والفنون والفلسفة والاجتماع والتاريخ والجغرافيا وعلم النفس، لا يجدون مكانًا لهم في أسواق العمل، وهم بالتالي إما جالسون بلا عمل، وإما مضطرون إلى ممارسة أي عمل والسلام، يقتاتون به هم وأسرهم، وإن شئتم فعودوا إلى الإحصائيات فاقرأوها.
وفوق هذا، فإن العلوم الاجتماعية -في رأي هؤلاء المعارضين- تفتح الباب على مصراعيه أمام القوى الأجنبية للتدخل في الشؤون الداخلية للأمة العربية والتأثير على قرارات الحُكام والسياسيين العرب، عن طريق الباحثين الأجانب الذين يتذرعون بمحاولة فهم الواقع العربي بينما هم في حقيقة الأمر لديهم أغراض خبيثة يسعون من خلالها إلى تفتيت المجتمعات العربية.
المجتمعات العربية تعاني نقصا في الديمقراطية ما يترك أثره على جودة أبحاث العلوم الاجتماعية، ومن ثم لا ينتظر منها تغيير أو تقدم في المدى المنظور
ثم ألا يتخفّى الكثير من المعارضين والناقمين على أنظمة الحكم العربية في صورة باحثين أكاديميين للعلوم الإنسانية، وللمجتمع المدني، سعيًا إلى إفشاء الزيغ والاضطراب الفكري والنفسي بين المواطنين العرب؟ أليست المحاكم العربية تعج في الوقت الراهن بالكثير من تلك النماذج “العميلة”؟
لذلك، فإنه سيكون من الأكثر منطقية توجيه الإنفاق على مراكز بحوث العلوم الاجتماعية إلى تلبية احتياجات المواطنين الأساسية، من طعام وتعليم ومشروعات للبنية التحتية بدلًا من هذا الهدر غير المبرر.
ويلفت المناوئون للعلوم الاجتماعية إلى نقطة مهمة، وهي أن الشرط الأساسي لنجاح تلك العلوم وتطورها هو توافر المعلومات والسماح بتدفقها في انسياب وحرية.. فهل يحدث هذا في مجتمعاتنا العربية؟
إن أقل ما يمكن أن يقال إن هذه المجتمعات تعاني نقصا في الديمقراطية ما يترك أثره بالتبعية على جودة أبحاث العلوم الاجتماعية، ومن ثمّ لا يُنتظر منها تغيير أو تقدّم في المدى المنظور. وثمة انتقاد آخر لا يخلو من وجاهة؛ أن تدريس العلوم الإنسانية في الجامعات والمدارس العربية دائمًا ما يعتمد على التلقين وحفظ القديم وترديده دون وعي، وهو ما يختلف عن دراسة العلوم التطبيقية التي تعتمد المنهج العلمي القائم على القياس والتجريب والاستقراء والتطبيق، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى إعاقة الابتكار والتجديد وتنمية المهارات لدى الدارسين.
العلوم الاجتماعية تكتفي بالمشاهدة والمسح من خلال عيّنات صماء، وبالتالي فالنتائج التي تتوصل إليها تكون غير مضمونة وعُرضة للتغير، ويعود ذلك إلى طبيعة الظاهرة الخاضعة للبحث، وهي الإنسان نفسه، والذي هو متقلب ومعقد وغير مستقر.
بمعنى آخر، فإن الإنسانيات -في رأي المنتقدين- تحبسنا دائمًا في ما هو قديم عفا عليه الدهر، ما يرسخ الماضوية والحنين إلى الفائت البالي، ورفض كل جديد بذريعة أنه من المحدثات والبدع والضلالات، وتكون النتيجة إيجاد مواطن يملك عقلية متخلفة ولا يستجيب لمستجدات العصر، وقد يكون تربة خصبة لتقبل آراء المتشددين الغارقين حتى آذانهم في أفكار الماضي البعيد.
ويضيفون إلى ذلك أن العلوم الاجتماعية تقوم على تعريفات ملتبسة يلفها الغموض، كما أنها متعددة الأوجه، عكس العلوم التطبيقية التي تتميز قوانينها بالثبات والوضوح والرصانة العقلية وعدم الميل إلى الشخصنة، ويرتبون على ذلك أن التخلص من دراسة العلوم الاجتماعية يعني تخليص العقل العربي من كل هذا العوار وتلك العيوب.