فضيلة ملهاق روائية تحفر في وثائق العشرية السوداء

السبت 2017/04/01
فضيلة ملهاق باحثة جزائرية بعيدة في المكان قريبة في الزمان

أبو ظبي- تعيش الجزائر على وقع حركة أدبية تحاول أن تكون أكبر من الفعل الإعلامي لجهة التعمق في طرح القضايا المجتمعة في سياقها السردي والشعري وأصدق من الخطاب السياسي لجهة الكشف عن مغالطاته وأخطائه وصناعته للفساد ولأهله. حركة أدبية تعمل على توصيف الواقع ضمن أعمال تضيق مساحة الخيال فيها لصالح حقائق الواقع، أو واقع الحقائق وما أكثرها، وهي تقتات إبداعا، إن جاز التعبير، على ذكريات الألم القريبة وتحديدا ما يعرف في الجزائر بالعشرية السوداء (الحمراء في بعض الكتابات).

الأدب الجزائري في كل ذلك يكشف عن حالات من الوعي من جيل فاعل مسلح بالمعرفة ومتابع للحركة الإبداعية في العالم. لكنه غارق في محليته، غرق يؤهل العملية الإبداعية، في أغلبها، لأن تكون جزءاً من منظومة الإبداع العالمي حتى لو ظلت داخل حدود الوطن، وبتعميق تجربة هذا الأخير يتم الذهاب إلى العالم دون اكتراث بأن يكون جزءا منه ويتصدى لهذا النوع من الكتابة مبدعو جيل يمكن أن نطلق عليهم “جيل الأمل واليقين” حيث لم تجعلهم المأساة التي عاشوها أطفالا أو شبابا سجناء الماضي القريب، ومن هذا الشباب، تظهر الروائية والشاعرة والقانونية فضيلة ملهاق.

لست أدري إن كان يحقُّ لي أن أعتبرها ظاهرةً أدبيةً وفكريةً مٌتَحَرِّكة. وهي أيضا وعلى نحو ملحوظ، تتكون من ثلاث شخصيات مكملة لبعضها، فهي في نصوصها المكتوبة شعرا ونثرا تتقصّى الحقائق حتى حين تدخل القارئ في مجاهل الخيال وأدغال الأوهام، وهي في تفاعلها مع الجمهور حذرة لدرجة يعتقد المستمع أنها تود أن يكون بينها وبين جمهورها فواصل وحواجز.

ومع ذلك فهي في الوقت ذاته تُلْغي الأمد البعيد، أي أنها بعيدة في المكان رغم حضورها، قريبة في الزمان رغم بعدها، وهناك شخصية ثالثة تظهر العمق في فهمها للأحداث ولصراع الأمم من خلاله تُحيلُك عند النقاش الهادئ والحوار الدافئ إلى أصول القضايا ومنابعها لَتُريك كيفية وصولها إلى المصب، هنا تظهر عليها ثقافتها القانونية وتلك متعلّقة بالجانب الوظائفي الذي لم أعشه وبالتالي لا أملك حق الحكم عليه.

وبعيدا عن أي شوفينية تبدي فضيلة ملهاق حبا واعيا للجزائر لا يقوم على قاعدة “الأذن تعشق قبل العين أحيانا”، وإنما على قاعدة “من رأى ليس كمن سمع”. ذلك لأنها لا تأتي على ذكر مشاهد الجزائر دون أن تؤصّل للوقائع وللمشاهد على امتداد مساحة الجزائر، فما العاصمة لديها إلا جزء من جزائر كبرى، وهذه الأخيرة جزء من الوطن العربي ومن العالم الإسلامي ومن العالم كله بعد ذلك، ولذلك لا تغمرنا الدهشة حين نجدها في أكثر من ديوان وفي عدد من القصائد تحضر الثورات العربية ومن خلالها تعيد تذكير الجزائريين بمآسي فلسطين وسوريا والعراق.

الهجرات العربية والقرون الغابرة

الأصول والجغرافيا كان يمكن لهما أن تؤثرا على فضيلة ملهاق، فتبدع لنا نصوصا أمازيغية وتكون بذلك قد حققت أماني دعاة العرقية. لكنها لم تفعل ذلك، مع أنها فخورة بأمازيغيتها لكن ضمن جزائريتها وكذلك الحال بالنسبة إل عروبتها ودينها الإسلامي

رُبّما دون قصد تُعيد ملهاق كتابة الهجرات العربية الأولى لقرون غابرة، أي في رحلة الحميريّين إلى شمال أفريقيا، وذلك حين انتصرت للعربية كتابة وهي القادرة على أن تبدع بغيرها، الفرنسية مثلا أو الإنكليزية أو الإسبانية على نطاق ضيق.

كان في مقدورها أن تفعل مثل كثير من الجزائريين فتسحبها الأصول والجغرافيا فتبدع لنا نصوصا أمازيغية وتكون بذلك قد حقَّقت أماني دعاة العرقية. هي لم تفعل ذلك مع أنها فخورة بأمازيغيتها لكن ضمن جزائريتها وكذلك الحال بالنسبة إلى عروبتها ودينها الإسلامي، لذلك على النقاد العرب، إن تمكنوا، ضرورة قراءة أعمالها ضمن المنجز الثقافي العربي. لأنها تُسْهِم في تحقيق تعريب حقيقي يدمغ أباطيل وأراجيف السياسيين بمن فيهم دعاة التعريب حين اتَّخذوا من التعريب مدخلاً للكسب وللوصول إلى السلطة ومَغْنَماً أيضا، وهم يتربَّصون بالعربية وأهلها الدوائر.

ضد الفرنكوفون

لقد قررت ملهاق ألاّ تكون رافدا -إبداعياـ للثقافة الفرنكوفونية، وحتى عندما كتبت بالفرنسية لم تنزلق إلى الفضاء الفرنكوفيلي، وباختصار تقدم نصوصا مكتوبة بوعي، كما أنها شخصية متحدثة ترى من خلالها الجزائر بماضيها وحاضرها ومستقبلها وبعنفوانها وبعزّتها، وأيضا بنصرتها غير المبررة -أحيانا- للجزائر سواء أكانت مظلومة أو ظالمة، تماما مثلما تقرأ في أعمالها انتماءها العربي والذي يظهر في كتاباتها معبّرا عن طبيعة مرحلة وخاصة الثورات العربية التي كشفت عورات الأنظمة الحاكمة وعن عورات مؤسساتها الرسمية، وخاصة جامعة الدول العربية، من ذلك قولها في ديوانها “الفيفا تستحم في الجزيرة”:

أخي السرمدي في الجامعة

كم كوَّموني

وكم بعثروني

ووجهوا لي من ضربة موجعة

رواية فضيلة ملهاق الأخيرة "ذاكرة هجرتها الألوان" تقوم على التوثيق

كم أخرسوني بصمت ولائك

وخاطوا عيوني بإبرتك اللامعة

كم زكوا ظنوني حول نخوتك الضائعة

وأناقضهم بملامحك الشافعة.

تتألم فضيلة ملهاق لكل ما يحدث للشعوب العربية من مآس، وتظهر تفاعلها في قصائدها دون أن تتكلف ذلك أو تتصنَّعه، وهي بدت عادلة في كتابتها، فالوطن -الجزائر- أكثر حضورا في مجموعتها القصصية ورواياتها وللعرب حضورهم الأكبر في شعرها، وفي الحالتين هناك بعد إنساني أخرج الإبداع الجزائري من الكاتبة النمطية التي حدودها الوطن إلى جعْل الوطن يرحل إلى العالم حينا ويجعل العالم حاضرا عنده أحيانا أخرى.

الكتابة عند ملهاق اختيار واعِ وليست مجرد تعبير عن الذات والمجتمع فقط، أو مجرد إشباع لحاجات الوجود ضمن الصفوف الأولى للمبدعين في ما يُعدُّ نوعاً من الحضور المزيف لأنها تؤسس لكتاباتها من خلفيتها التعليمية منذ دراستها في المرحلة الثانوية للرياضيات وعلم الطبيعة والحياة، ومن تكوينها في الجزائر وخارجها ضمن مجالات مختلفة شملت القانون والدبلوماسية واللغات الأجنبية، والأكثر من هذا كله ترتب حياتها انطلاقاً من ماضيها الطفولي الذي فجر طاقتها وراكم معرفتها وزاد في وعيها منذ أن بدأت في سن مبكرة خوْض تجربة الكتابة في مجال القصة والرواية والنصوص المسرحية في إطار النشاطات المدرسية، وبعدها باشرت التأليف في المجالين القانوني والفكري.

توالد الأبعاد الحضارية

اليوم تمارس الكتابة الأدبية صنعة وهواية لا حرفة، وتسندها بكتابات أخرى من خلال مؤلفاتها القانونية، منها كتابها “وقاية النظام البنكي الجزائري من تبييض الأموال” الذي يعدُّ من المراجع القليلة في الجزائر التي تطرقت مؤخرا لمسألة الوقاية، إذ أدركت وبعد تجربة عمليّة واطّلاعية ومعرفية على أن الجزائر في حاجة إلى وقاية مستقبلية من الفساد تقترن وتتزامن مع مكافحته، وخاصة في مجال ظاهرة تبييض الأموال.

كتابها "وقاية النظام البنكي الجزائري من تبييض الأموال" يعد من المراجع القليلة في الجزائر التي تطرقت مؤخرا لمسألة الوقاية، إذ أدركت وبعد تجربة عملية ومعرفية على أن الجزائر في حاجة إلى وقاية مستقبلية من الفساد تقترن وتتزامن مع مكافحته وخاصة في مجال ظاهرة تبييض الأموال

تفرّق ملهاق بين التاريخ من حيث هو ذاكرة ومن جهة أنه ركن شديد نأوي إليه لفهم الحاضر، ولذلك هي ليست كما يراها بعض النقاد تقدم أعمالا تقوم على التوثيق كما في روايتها الأخيرة “ذاكرة هجرتها الألوان” إذ شكّلت فيها العودة إلى العشرية السوداء في تسعينات القرن الماضي القضية الكبرى، ومن خلالها توغلت كثيرا في التاريخ واستعادت أحداثا تاريخية سابقة، إنما استعادة للحضارة كتابة في إطار الفعل الإنساني، حيث حياتنا مجرد تراكم لقصص البشر الأحياء والأموات، أو كما قالت في إحدى حواراتها الصحافية “الكتابة هي توالد وانتشاء للأبعاد الحضارية للفكر الإنساني”.

يبقى أن نشير إلى أن الروائية ملهاق محل اهتمام النقاد في الجزائر، لكن معظم من تناول أعمالها ظل أسير متطلبات وشروط الصحافة الثقافية، فشّكلت بذلك حالة إبداعية في مجال الإعلام، وهناك دراسات تعد حول بعض من كتبها على المستوى الأكاديمي، ولأنها من خارج المجال الثقافي وظيفيا فهي تعيش بين ثنائية الاعتراف والحضور الموسمي كل ما يصدر لها مؤلف جديد أو تشارك في أمسية شعرية أو ندوة أدبية أو تظاهرة فكرية أو مؤتمر علمي، وبين الغياب نتيجة الوظيفة أو على خلفية مخاوف المبدعين من تألقها المتواصل، وأمام هذا الوضع تراهن ملهاق على ديمومة من خلال الاهتمام النقدي العربي متجاوزة بذلك حدود جغرافية الوطن إلى عالم عربي أوسع قد يشكل انطلاقة في المستقبل المنظور نحو فضاءات ذات بعد عالمي.

13