بعد قرن من التغيير.. تركيا تتشكل من جديد

يعتبر تصريح المحلل السياسي التركي مصطفى أكيول الذي يقول فيه “بعد قرن تتشكل في تركيا شخصية يكاد يؤلهها أناس هم أنفسهم كانوا قد سخروا لعقود من تأليه مصطفى كمال أتاتورك”، توصيفا دقيقا للوضع في تركيا التي تبدو قاب قوسين من منح الرئيس رجب طيب أردوغان الشرعية الشعبية ليؤكد دكتاتوريته دستوريا ويقلب حال البلاد تماما مثلما فعل أتاتورك.
الأربعاء 2017/03/29
"أبوالأتراك" في ثوبه القومي الإسلامي

أنقرة - توجه نحو 2.5 مليون مواطن تركي يعيشون في ألمانيا إلى صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم في استفتاء على تعديلات دستورية مقترحة لزيادة سلطات الرئيس رجب طيب أردوغان. ويجري التصويت المثير للجدل وسط توتر متزايد في العلاقات بين تركيا ودول أوروبية من بينها ألمانيا، التي كتبت إحدى أشهر صحفها صباح الانتخابات “لو كان أتاتورك حيّا لقال لا في الاستفتاء”، لكن هل حقا يختلف أردوغان عن أتاتورك؟

يذكر أن مصطفى كمال أتاتورك ما إن وصل إلى السلطة حتى قلب البلاد رأسا على عقب وحكمها بقبضة من حديد، ثم سلم مفتاح هذه القبضة للجيش الذي ظلّ حاميا للعلمانية منذ قيام الدولة التركية الحديثة عام 1923. وعلى امتداد السنوات بدأت ملامح المجتمع التركي تتغير وتكتسب الطابع الغربي الأوروبي الذي أراده كمال أتاتورك الذي جعل الحقبة العثمانية غابرا من تاريخ تركيا.

يسير رجب طيب أردوغان القومي الإسلامي على خطى أتاتورك القومي العلماني، فهو أيضا مهووس بالسلطة ويشن الحملات ضد المعارضين ووسائل الإعلام ويتحرك بحزم بعيدا عن الأعراف الديمقراطية، بل إنه ربما يكون أشد من أتاتورك دكتاتورية، إذا ما نجح في اقتلاع الاعتراف الدستوري بمنحه سلطات مطلقة.

لكن، على عكس أتاتورك، الذي طوى صفحة الدولة العثمانية وتطلع إلى تركيا الأوروبية التي أصبحت الذراع الشرقية العلمانية لحلف الناتو، يقوم أردوغان اليوم بإضعاف الروابط الواعدة مع الغرب ويروّج لإعطاء الدين دورا أكبرا في الحياة العامة بالبلاد. وعلى مدى عقود، عمل الجيش التركي كسور لحماية العلمانية، حيث نفذ أربعة انقلابات لمنع الإسلاميين من تولي زمام الأمور. لكن حزب العدالة والتنمية تمكن من تحييد دور الجيش في السياسة وأجرى العديد من التغييرات داخل المجتمع باسم الدين.

"السلطان" المنتظر

في الخريف الماضي، كتب مسؤول محلي من حزب العدالة والتنمية على صفحته الخاصة بفيسبوك تدوينة مثيرة للجدل جاء فيها أن أردوغان “سيكون الخليفة المرتقب” وأن في العام 2023، أي عندما يبلغ عمر الجمهورية التركية مئة عام، سيطفئ الله النور”، فيما صوّر رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في أحد خطبه خلال الحملة التعديلات الدستورية أردوغان على أنه “سليل حقبة عثمانية جليلة”.

ولفت هذا التغيير الحاصل في تركيا نظر سكوت بيترسون، المحلل والمصور في مجلة كرستيان سينس مونيتور، الذي قام بإجراء تحقيق حول نفوذ أردوغان المتصاعد وكيف يتقبل الأتراك هذا التوجه الجديد لبلادهم. واعتمد بيترسون على هارون ديمير، عامل البناء وخطيبته عاملة التنظيف سينيز كايا، كنموذج اشتغل عليهما؛ مشيرا إلى أنهما يمثلان التوجه السياسي الجديد لتركيا في عهد أردوغان.

ويركز سكوت بيترسون على وصف المتحدثين، مشيرا إلى أن لهارون لحية صغيرة ولا تفارق الابتسامة البسيطة محياه، فيما تسرح خطيبته شعرها المجعّد الطويل بطريقة حديثة، ولا تضع الحجاب على رأسها. ولا يبدو الخطيبان أقل تديّنا أو أقل تسييسا لكنهما يمثلان وجه تركيا الأردوغانية ووجهة نظر يعتنقانها بقوة حول القومية الإسلامية التي صاغها بدأب وبشق الأنفس رجب طيب أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية.

سكوت بيترسون: أردوغان يستعين بنسخة من القومية الإسلامية لبناء نفوذ على النمط العثماني

إنهما يعتقدان، مثلما يعتقد العديد من مواطنيهما، بأن يد أردوغان الطولى التي تتدخل في كل شيء، بدءا من حرية الصحافة إلى هندسة سلطات رئاسية غير مسبوقة، هي شيء مبرر باعتبارها أفضل طريق لحل مشاكل تركيا الكثيرة. فقد كان البلد مسرحا لأكثر من 30 هجوما في العام الماضي، وهو يواجه اقتصادا متعثرا، كما أنه في حالة حرب في جنوب شرق تركيا، في سوريا والعراق.

ولا يختلف وضع تركيا اليوم عمّا جرى قبل حوالي قرن من الزمن، حيث أدخل أتاتورك ما بين 1923 وحتى وفاته عام 1938، وهي فترة حكمه للبلاد، تغييرات جذرية قلبت تركيا رأسا على عقب في المجالات السياسية والقانونية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لتحديث وعلمنة الجمهورية التركية وفقا للأيديولوجية الكمالية التي سار على نهجها كل الرؤساء الأتراك الذين خلفوا أتاتورك إلى أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم سنة 2002.

لكن، حتى مع وصول الإسلاميين إلى الحكم، بقي مصطفى كمال “أبوالأتراك” ولم تظهر النوايا الانقلابية لحزب العدالة والتنمية إلا مع وصول رجب طيب أردوغان إلى مركز صناعة القرار السياسي في تركيا في مرحلة أولى عندما كان رئيسا للوزراء، واليوم وهو رئيس للدولة.

واستطاع أردوغان خلال فترة حكمه على مدار خمسة عشر عاما أن يجر البلاد بالتدريج بعيدا عن التقاليد العلمانية التي أرسى قواعدها مصطفى كمال أتاتورك على أطلال الإمبراطورية العثمانية في العام 1923.

ويسعى أردوغان اليوم إلى تحويل النظام في تركيا من برلماني إلى رئاسي بما يمنحه صلاحيات مطلقة ليكون “أبوالأتراك” في ثوبه القومي الإسلامي. ونجح أردوغان إلى حد ما في كسب قاعدة شعبية تؤيده في توجهاته السلطوية، والتي يمثلها هارون وسينيز.

كما نجح أردوغان في أن يرسخ في أذهان الأتراك فكرة التآمر على البلاد. وقال في 10 يناير الماضي إن “تركيا تتعرض لهجوم خطير من الداخل والخارج على حد سواء. ليس ذلك لأننا بلد ضعيف، وإنما لأننا بلد يصبح أقوى وأقوى”.

وتبدو سينيز مقتنعة بكلام أردوغان وهي تحدث سكوت بيترسون قائلة “على الأتراك أن يعتصموا بالصبر ويؤمنوا بالتغييرات. لكي تكون الأمور أفضل يجب أن تثق بأردوغان. إن دورنا كمواطنين هو أن نثق في زعيمنا”.

وتشير استطلاعات الرأي إلى أن التكتل السياسي الديني في تركيا يشكل أغلبية ستؤطر السياسة التركية في المستقبل القريب، فيما يؤكد المعارضون أن حكم أردوغان غير المقيد جرّ تركيا إلى مستنقع محلي من الانقسام المجتمعي.

وأجرت جامعة قادر هاس استطلاع رأي سنوي أسفرت نتيجته عن مجتمع منقسم بشكل عميق لكنه ذو أغلبية أكثر تكتلا. وصرّح حسن بولنت كهرمان، نائب رئيس جامعة “قادر هاس” لصحيفة “حريت ديلي نيوز” التركية قائلا “يمثل حزب الأكثرية حوالي 70 بالمئة من مجموع الشعب التركي. تلك الأغلبية ستمارس سيطرتها على كافة الأوضاع أيضا في المستقبل من خلال طريقتها وأيديولوجيتها في التفكير”.

أغلبية دينية

يقول مصطفى أكيول، المحلل السياسي التركي، إن “مؤيدي حزب العدالة والتنمية يعتقدون أن تركيا تواجه مشاكل عويصة -وهم محقون في ذلك- لكنهم يعتقدون، وفقا لأقاويل أردوغان أن بعض القوى الماكرة تتآمر على تركيا وهي سبب تلك المشاكل”.

أردوغان النسخة الإسلامية لأتاتورك العلماني

ويضيف أكيول، زميل مشروع الحرية في كلية ويليسلي التابعة لجامعة مساتشوستس بالولايات المتحدة، “إنهم يعتقدون أن هذه المؤامرة سيجهضها فقط زعيم قوي جدا غير معتد بأحد، وهو بالطبع أردوغان... تجد هذه الدعاية السياسية أمامك كل يوم لا بل كل لحظة. 70 أو 80 بالمئة من المواد التي تبثها أو تنشرها الوسائل الإعلامية كالتلفزيون والصحف ستقول لك تلك الحقائق”.

هناك دائما قومية مصابة برهاب الأجانب والارتياب، وفق أكيول، الذي يضيف موضحا في تصريحاته لمجلة “كرستيان سينس مونيتور”، “لكن القومية الأولى ونظرا لأنها مستندة إلى أتاتورك فقد كانت علمانية، وبما أنها لا تناسب المعسكر الإسلامي فقد تحولت إلى قومية إسلامية متشددة مع أردوغان”.

وكثيرا ما منح الدين منزلة أعلى باعتباره من الأهداف التي تصدرت أجندة حزب العدالة والتنمية الإسلامي منذ البداية. وانتشرت صور كثيرة تدل على ذلك الهدف في كل مكان ومجال، بدءا من زيادة عدد النساء اللواتي يرتدين الحجاب وصولا إلى تزايد عدد المساجد التي تم تشييدها في البلد من حوالي 79 ألف مسجد في العام 2006 إلى حوالي 87 ألف مسجد في العام 2015، بحسب تصريحات مديرية الشؤون الدينية. ويعترف بذلك إيدين يغمان، مفتي مقاطعة بيوغلو في إسطنبول وخبير السلطة الدينية في الدولة، إذ يقول “نحاول خلط الدين بالحياة الاجتماعية بصورة أكبر. نريده (الدين) أن يُمارس في المنازل وأن نجعله جزءا أكثر حيوية من حياتنا”.

ويرتدي يغمان بدلة وربطة عنق ولا يرتدي الرداء الديني الرسمي، كما أنه حليق الذقن تماشيا مع العرف العلماني السائد الذي تم تطبيقه على مسؤولي الدولة منذ العشرينات من القرن الماضي.

ويخلص أكيول “بات الحزب المحافظ الديني يحلم بهذا منذ عقود مضت. أدرك أردوغان تلك الحقيقة وأخذ يبث رسالته’. كنتيجة لذلك حظي بالتفاف الكثير من المحافظين حوله. المشكلة هي أننا لا نعيش في زمن العثمانيين، ولا نعيش في حقبة السلاطين.. إنما نعيش في حقبة الديمقراطية الليبرالية. وتركيا لا تسير نحو هذا الاتجاه”.

12