سلطة الكمّ
حين أصدرت الكاتبة المصرية أهداف سوّيف روايتها “في عين الشمس” بالإنكليزية سنة 1992، لفتت الانتباه بحجمها الكبير، حيث شارفت الثمانمئة صفحة، ولم ينشغل آنذاك بمتن الرواية إلا بعض النقاد العرب، ممن اعتبروه عائقا في سبيل ترجمتها وانتشارها عربيا، بيد أن الروائية ستبرز في حوار معها أن أسبابا تتعلق بطبيعة النص وتفاصيله الجريئة هي العائق الحقيقي، أما متن الرواية فقد كان في الأصل ممتدا في أكثر من ذلك، قبل أن يختصره الناشر الإنكليزي لمبررات هيكلية وأسلوبية. والحق أن أيا من الذين كتبوا عن الرواية، في الغرب، انشغل بعدد الصفحات، مثلما لم ينشغل أحد من قبل بصفحات روايات كونراد وبروست وإيميلي برونتي.
وفي مقابل الروايات الطويلة، عرفت الساحة النقدية عددا كبيرا من الأعمال النقدية والفكرية الطويلة التي لم ينتقص يوما طولها من قيمتها المعرفية، أستحضر هنا كتاب “بدايات” لإدوارد سعيد (أزيد من خمسمئة صفحة) و”تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي” (أزيد من ستمئة صفحة) و”الزمن والسرد” لبول ريكور (ثلاثة مجلدات)، وهي كلها أعمال طويلة مسرفة في التفصيل، وتمتد عبر العشرات من الأقسام والفصول والمباحث، حيث مثل المتن الغزير المتشابك ذو النفس المطنب، عنصرا جوهريا في عبقرية تلك الأعمال واستثنائيتها.
أستحضر سمة الإسهاب التحليلي والنثري بعد هيمنة ما يمكن تسميته بسلطة “المختصر” الذي ليس مفيدا في كل الحالات، وإنما يبدو تحايلا على القارئ أحيانا، واستهانة بالمعارف، وانحيازا لبلاغة “اللّمع”، التي بدأت تهيمن على وسائط التواصل الحديثة، وعلى الصحافة، ذلك أنه لا يمكن اعتبار مقال من خمس صفحات بحثا مستوفيا لشروط الاستقصاء والتحليل، مثلما لا يمكن قبول رواية من خمسين صفحة بحجة أن عوالمها ضيقة، لهذا أتفهم ذلك الشرط المبدئي في عدد من الدوريات العلمية القاضي باستيفاء الدراسات عددا من الكلمات، بمثل ما أتفهم إحالة عدد من الناشرين الغربيين لنصوص الروايات على مختصين للنظر في “كمّها” وطلب الزيادة فيها أو اختصارها.
فالكلمات، عزيزي القارئ، تدل على معان كبرى أو صغرى لا يهم، لكنها حين تنتظم في جمل وفقرات فهي تدل على كم من الدلالات والمعارف، ولنقل على قدرة في امتلاك اللغة وامتلاك المعلومة، طبعا ثمة شيء اسمه الأسلوب، الذي هو استعمال فردي لمدونة اللغة وأنساقها ولمنجز المعارف، بيد أنه شأن شخصي قد يحاكم بحدي التبسيط والتعقيد، أمر لا علاقة له بالقدرة الأصلية على تشغيل اللغة وامتلاك المعرفة التي قد نحاكمها بحدي الخطأ والصواب والحسن والضعيف، في النهاية كم الكلمات والجمل والفقرات والصفحات قاعدة مركزية في التعبير، لا يمكن أن نقول شيئا دون أن نقوله، أو نتعلل بالندرة الكثيفة أو الاقتصاد الدال.
كاتب من المغرب