الموسيقى شرط اكتمالنا الإنساني

يقول إيميل سيوران “عندما تعجز الموسيقى عن إنقاذنا، يلتمع في عيوننا بريق خنجر، ولا يبقى شيء يسندنا غير الافتتان بالجريمة”.
ففي البلاد التي يحرم ساستها وكهنتها الموسيقى ويحتقرون النغم والطرب والغناء يتحول الوطن إلى زريبة نتنة لإنتاج القتلة والمتعصبين واللصوص والحكام القاسية قلوبهم والمتجهمة وجوههم.
بلا موسيقى يصبح القادة سجانين قساة لا ترهف قلوبهم أغنية حب ولا تلين عريكتهم نغمة كمان ويمسي الشعب المحروم من نعمة الفن والموسيقى قطيعا من الخانعين مسلوبي الإرادة تلاشت من قلوبهم رعشة الحياة وتحولوا إلى بشر متكلسين جاهزين لاقتراف الكراهية وتعذيب الجسد والعالم بإشهار التعصب وممارسة العنف على الذات والآخر.
هؤلاء الذين لا تلامس أرواحهم سحبة القوس على وتر الكمان أو ترنيمة ناي في غسق صيفي، ولا تعنيهم موسيقى موزارت ولا تحرك مخيلتهم مقطوعة لعبدالوهاب أو أغنية حب عذبة لناظم الغزالي أو ترتيلة جوقة تترنم بأنشودة صوفية، هم أنفسهم لا يكترثون بتغريدة طائر ولا تؤثر رقرقة نبع في جلاميد قلوبهم، وهم بالأحرى كائنات حُكم عليها بالتحول من الصيغة البشرية السويّة إلى كائنات مشوّهة عاجزة عن التعاطف والحب، وعندما يعجز الكائن عن التعاطف مع الكائنات الأخرى تتملكه قسوة الفؤاد وتنضب مخيلته ثم تموت وهي التي كانت سر نمو العقل وسند ازدهار الصبا وشرط اكتمال الإنسان.
يرتبط تحجر المشاعر وموت المخيلة لدى الشعوب بارتفاع نسبة البؤس الإنساني وانحدار القيم وتردي الثقافة والفنون ومنها الموسيقى فتصاب البلاد بمضاعفات نضوب الإبداع ويباس الأرواح.
يؤكد بعض المفكرين المعنيين بالإبداع أن للموسيقى والأنشطة الفكرية والإبداعية دورا أساسيا في تفعيل المتخيل واستخدام المخيلة لانتشال الروح الإنسانية من بؤسها وانحدارها. فالمخيلة المعطوبة أو المعطلة التي نجدها لدى متزمتي الأحزاب الدينية المتعصبين أسهمت بشكل فعال في إطلاق موجات العنف الفكري والعنف الاجتماعي وعززت قسوة التعامل مع الآخر، بينما أسهمت الفنون والموسيقى طوال العصور في تنشيط العقول وتهذيب الحواس وتخليص النفوس من شوائب العنف فانعكس تأثيرها على تنشيط المخيلة وازدهار الرقة في القلوب وإطلاق الطاقات الإبداعية.
يحارب المتعصبون المتطرفون من مرضى المخيلة كل من لايشابههم ويعدونه عدوا لا بد من مقاتلته والقضاء عليه، ويبحث المتطرفون دائما عن أناس مختلفين يصبون عليهم حقدهم ليفخروا بأنهم الأخيار الوحيدون بامتناعهم عن سماع الموسيقى أو الاعتراف بالفنون ويبدأون بصب اللعنات على الموسيقى ومحترفيها ولايكتفون بذلك بل يحرمونها بفتاوى، وتعمل مخيلاتهم المعطوبة على اختراع الأسباب لمحاربة قيم الجمال ومعتنقيها.
بعد احتلال بغداد وفي شهور الفوضى التي أطلقت فيها قوات الغزو العنان للصوص والمخربين شهدت شخصيا جماعات من الأحزاب الدينية التي احتلت مقرات بعض المدارس والمكتبات العامة، وكان أفرادها يحملون الرايات والعصي والأدوات الجارحة ويهجمون على مدرسة الموسيقى والباليه ومعهد الفنون الجميلة القريب منها ويمعنون تحطيما بالآلات الموسيقية والمنحوتات والتماثيل واللوحات، ويمضون مخلفين حطام أجهزة البيانو الثمينة وآلات الكونترباص والكمانات وهم يشتمون الفن والفنانين بأقذع الألفاظ.
لقد أصابت العراق تحت هيمنة الأحزاب الدينية حالة من نضوب الفنون وانكماشها تسببت في انحدار الذائقة العامة وجفاف المخيلة باستثناء بعض الجهود الفردية والفرقة السيمفونية التي أوقفت وزارة الثقافة رواتب عازفيها أخيرا، بينما ترتبط الذاكرة الجمعية العراقية بوشائج عميقة مع الموسيقى تمتد إلى الحضارات الأولى في سومر وبابل وآشور عندما كانت الموسيقى عنصرا أساسيا في الحياة اليومية وطقوس التعبد وأعياد الخصب، فضلا عن ارتباط الذاكرة بإرث المقام العراقي والغناء الشعبي الثري بتنوعه وعراقته.