وفد اتحاد كتاب فلسطين في دمشق
بديهي أن تثير زيارة وفد اتحاد كتاب فلسطين إلى دمشق، في هذه الظروف، ردود فعل كبيرة، ومتباينة، على الرغم من هذه الزيارة ليست مفاجئة وليست الأولى من نوعها، من جهات فلسطينية، إذ دأب على زيارة العاصمة السورية، ولقاء مسؤوليها، العديد من قيادات منظمة التحرير الفلسطينية، وحركة “فتح”، وضمن ذلك ممثلـون عن الاتحـادات الشعبـية الفلسطينية.
ولعل مصدر الإثارة في هذه الزيارة يكمن في أنها جرت باسم كتاب فلسطين، أي بمن يفترض أنهم “نخبة” شعب فلسطين، وأنهم أكثر المدركين لمعنى الحرية وأكثر المدافعين عن حقوق البشر وأكثر المناهضين للتسلط والاستبداد، وهذا ما يميّز المثقف، أو ما يفرض مكانة المثقف، على النحو الذي عبر عنه وتمثّله إدوارد سعيد في كتابه الشهير “صور المثقف”، وفي كل أحاديثه عن العلاقة النقدية أو الصراعية بين المعرفة والسلطة. ففي هذا الكتاب حاول سعيد تعريف المثقف باعتباره صاحب ملكة عقلية تمكنه من توضيح “رسالة أو وجهة نظر أو موقف أو فلسفة.. لجمهور ما”، وهو عنده “شخص ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه”، ويكمن مبرّر وجوده في مناصرة “الأضعف والأسوأ تمثيلا والمنسيين والمتجاهلين”. و”كشخص يحاول تعزيز قضية الحرية والعدالة”. وبرأيه يفترض بالمثقف أن “يكون محرجا ومناقضا بل حتى مكدّرا للصفو العام”، وأن يقول “الحق في وجه السلطة”، إذ “التبعية العمياء للسلطة.. أفدح الأخطار التي تهدّد كينونة حياة فكرية أخلاقية”.
وهكذا، ولعل ما زاد الطين بلّة أن وفد اتحاد كتاب فلسطين برّر زيارته تلك بدعوى إعادة توحيد الاتحاد، لكنه لم يفسّر لماذا فعل ذلك بعد 33 عاما على الانقسام، الذي سبق كثيرا قيام سلطة أوسلو (1993)، ولاعتبارات تتعلق بالجغرافيا السياسية، أسوة بكل ما بات يعرف بـ”فصائل دمشق”، التي ناهضت قيادة منظمة التحرير، وهي ذاتها قيادة السلطة و“فتح” لاعتبارات تتعلق بالسياسة السورية أساسا.
أيضا فإن هذا الوفد لم يفسّر سبب لقائه نجاح العطار نائب رئيس الجمهورية، ولا التصريحات المبجلة لنظام بشار الأسد، الذي كان يقصف، في الأثناء، مدينة حلب، فضلا عن أنه المسؤول عن تشريد الملايين وخراب عمران السوريين. فما معنى هذا اللقاء، أو ما علاقته بادعاء توحيد الاتحاد في هذه الظروف التي تشارف فيها كل الكيانات السياسية الفلسطينية على الانحسار والأفول؟
فوق كل ذلك فإن هذا المنزلق السياسي المجاني، تبعه منزلقان، مهني وأخلاقي، إذ أن هذا الوفد لم يتبادر إلى خلده أن يسأل عن الكتاب والفنانين الفلسطينيين السوريين، الذين قضوا تحت التعذيب مثل موعد موعد وحسان حسان وأنس العمارة، وحتى أنه لم يطالب نائبة الرئيس بالإفراج عن الكتاب المعتقلين في السجون، منذ سنوات، والذين لا يعرف أحد شيئا عن مصيرهم، من مثل علي الشهابي ومهند عمر ويزن عريشة وباسل خرطبيل ونيراز سعيد وحازم أبوعجاج.
في حقيقة الأمر فإن ممثلي الاتحاد المنقسمين تصرّفوا في هذا الأمر ليس باعتبارهم كتابا، وإنما باعتبارهم سلطة، بل وكحلفاء لنظام الأسد، يستوي في ذلك من يدعي التمسك بهدف التحرير الكامل من النهر إلى البحر، أو من يعتبر أن الدولة الفلسطينية في الضفة والقطاع، هي مشروعه الوطني، ذلك أن اختزال فلسطين إلى مجرد قطعة أرض، وتجريدها من معناها، كقضية حرية وكرامة وعدالة ومواطنة، هو الذي يجمع بين هذين الفريقين، اللذين كانا في خندقين متقابلين طيلة أكثر من ثلاثة عقود، إذ كان أحدهما يصمُ الآخر بالانحراف الوطني، فيما الثاني يعتبر الأول مجرد تابع للنظام السوري.
طبعا لم يتناسَ الوفد الكتاب الفلسطينيين الذين قضوا تحت التعذيب أو المعتقلين فقط، إذ أنه تناسى معهم، أيضا، مأساة فلسطينيي سوريا، ومأساة السوريين، وفوق كل ذلك تاريخ هذا النظام الذي اشتغل طوال أكثر من أربعة عقود على تقييد الحركة الوطنية الفلسطينية، وتحويل قضية فلسطين إلى مجرد ورقة لتكريس شرعيته، وتهميش مواطنيه، ومصادرة حقوقهم وحرياتهم، وضمنه جعل “المقاومة” ورقة مساومة لتعزيز مكانته على الصعيدين الإقليمي والدولي.
الآن سواء توحّد هذا الاتحاد أو لم يتوحّد، فإن هذا لم يعد يعني شيئا لكتاب فلسطين، بمعنى أن ما سيبقى من هذه الزيارة سوى التصريحات المشينة التي صدرت عن أعضاء الوفد، والتنكر القاسي لتضحيات السوريين، والفلسطينيين السوريين، وهذا الانحدار الأخلاقي لكتاب فلسطينيين، ممن يفترض أنهم أصحاب قضية عادلة، وأنهم ضحايا يفترض أن يتعاطفوا مع الضحايا، لا أن يتماهوا مع الاستبداد، لا سيما وأنهم أكثر من يعرف أن قضية الحرية لا تتجزّأ.
كاتب سياسي فلسطيني