وعي أيديولوجي
ليس من شيمة الوعي التاريخي الموضوعي أن يدخل التأريخ مسلحاً بالموقف الأيديولوجي. فالأيديولوجيا مفسدة للتأريخ ولعلم التاريخ معاً، وإذا وقع علم التاريخ أسير التأريخ الأيديولوجي فإنه يفقد عندها ماهية علم التاريخ الذي أشار إليها ابن خلدون في مقدمته بقوله بأن التاريخ علم عزيز.. وفِي باطنه نظر وتحقيق وتعليلات للكائنات ومبادئها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، ولهذا فهو أصيل في الحكمة عريق وجدير أن يعد في علومها وخليق بذلك.
التاريخ نظر وتحقيق أي تدقيق وتحقق من الصحة بتنزه عن الغرض الذاتي، وهدفه الكشف عن العلل الموضوعية التي قادته إلى السير على النحو الذي سار عليه. إنه علم.
ولأنه علم فإن المؤرخ وعالم التاريخ وفيلسوف التاريخ يجب أن يتحرروا من أيّ موقف عاطفي وأيديولوجي ومذهبي وقومي حين يجعلون من الوقائع التاريخية والشخوص التاريخيين موضوعاً للنظر.
هذا لا يعني عدم الاختلاف في النظر، كالاختلاف في تعليل الظاهرة أو الواقعة وأسبابها الجوهرية، ولكن اختلاف يظل في حقل الحقيقة وليس في حقل التقويم الذاتي عبر المدح والقدح.
وليس باستطاعة مؤرخ متعصب لمذهبه الديني أو الطائفي أن يتناول شخصية ذات أثر في صناعة التاريخي من غير ملّته وتأسيساً على موقف معاد له و لملّته.
فلا الموقف الشيعي المسبق من صلاح الدين الأيوبي ولا الموقف السني الممجد له بقادرين على كتابة تاريخ موضوعي لصلاح الدين، كما لا يستطيع مؤرخ منحاز مسيحياً لحروب الفرنجة أن يفعل ذلك.
وإنه لأمر خطير أن يتناول أحد من المؤرخين الأشخاص والوقائع انطلاقاً من تقديس الأشخاص والوقائع . وهو إن فعل ذلك فإنما يقدم أساطير وليس تأريخاً. فجمال عبدالناصر هو عند فريق من المؤرخين القوميين مثلاً هو شخصية تاريخية مقدسة وشبه مقدسة ومنزه عن الخطأ أو قليل الخطأ، فيما هو بالنسبة إلى مؤرخ إخواني أو متعاطف مع الإخوان المسلمين مكمن الخطأ و الضلال. كيف لا وهو الذي أمر بإعدام سيد قطب.
وعبدالناصر لا هذا ولا ذاك ولا بعض من هذا ولا بعض من ذاك. هو شخصية تاريخية مصرية خاضع للمعرفة التاريخية والبحث في العلل والأسباب.. الخ.
وقائل يقول: إن الوصول إلى علم للتاريخ موضوعي أمر مستحيل لا سيما وأن المؤرخ لا بد وأن يتأثر بانتمائه الثقافي. في قول كهذا جانب من الصحة ولكن هناك فرق بين أن ينطلق المؤرخ مباشرة من موقف مسبق ويحشر الواقعة والشخص فيه من جهة وملاحظة الأثر الثـقافي العابر من جـهة ثانية.
والحق بأن أكثر المؤرخين العرب قديمهم وحديثهم مازالوا في حقل الانحياز الأيديولوجي والديني والطائفي في خطابهم السردي التاريخي.
وإذا كنّا في العمل الفني الروائي أو المسرحي والدرامي واقعين على انحياز فج ومعيب للشخوص التاريخية أو معاداة واضحة ضدها ونغض الطرف عن مثالبها بسبب انتماء هذه النصوص إلى المخيلة فإننا في علم التاريخ لا نستطيع بدا القبول باللعب الأيديولوجي بالتاريخ ووقائعه.
كاتب من فلسطين