وعد راقصة الباليه

السلوك الاحتجاجي يرتبط عبر التاريخ بما يمكن أن نسميه بـ"الاحتفالية" قرينة "التمسرح"؛ فالتظاهرات، على ما تتضمنه من عفوية، حدث مصنوع، مسرحي إلى حد ما.
الأربعاء 2019/03/27
صور الحراك الجزائري اكتسحتها تعابير الفرح

في الحراك الجزائري ثمة صور تحولت إلى أيقونات: راقصة الباليه، سيدة الشرفة، العازفون، ثمة اجتهاد واضح لوضع الاحتجاج ضمن تركيبة صورية تستدعي العبور، من لحظة الغضب، إلى التعبير بنقيضه، رقصا وعزفا وغناء.

فمن ضمن قواعد البلاغة أن نستعمل صيغا تعبيرية لاستدعاء دلالات مفارقة… لكن الصور المعممة التي تحولت إلى سنن مقاومة في حرب الرموز، ما لبثت أن أنتجت خطابا مصدرا لوعد بشيء ما، قد يكون تحقق الإرادة الجماعية بمقاماتها المتباينة هي الغاية النهائية، أستحضر، في هذا السياق تحديدا، صورة جندي المارينز الذي طبع قبلة نهمة على شفاه ممرضة عابرة في أحد شوارع نيويورك، التي تحولت إلى علامة على نهاية الحرب العالمية الثانية، لقد تم تداولها عبر خطابات شديدة التباين من التحقيقات الصحافية إلى تحليلات السلوك الجماهيري إلى بروباغندا القوة الأميركية العاتية، لكنها في النهاية اتصلت دوما بتعابير الشارع التي تنتج صورا مشحونة بالدلالات، سرعان ما تنتشر تأويلات ما تعد به من سعادة ورفاه وانتصار وتحقق.

 لكن لنعد إلى صور الحراك الجزائري التي اكتسحتها تعابير الفرح، إذ يرتبط السلوك الاحتجاجي في حالات سلمية متكررة عبر التاريخ بما يمكن أن نسميه بـ”الاحتفالية” قرينة “التمسرح”؛ فالتظاهرات، على ما تتضمنه من عفوية، حدث مصنوع، مسرحي إلى حد ما، يصنع فرجة، تنفصل انفصالاً نوعيّاً عن الحياة العادية. وقيمته هي محصلة احتفاليته تلك، ففيها تكمن طاقات الإبداع الخلاقة وغير المستسلمة لمشاعر الغضب الجهنمي.

وما حالات الفرح المصوغ صوريا بأساليب الغناء والرقص واختراق الطرز وإعادة تمثيل الطقوس على نحو كرنفالي، إلا حصار للسلوك الاحتجاجي، والتغلب على طاقة الدمار داخله، ومن ثم الإبقاء عليه في نطاق الأسلوب التشخيصي.

هكذا تسعى التظاهرات الجماهيرية، بما هي تعبير عن وعي جماعي، إلى تحصين قصديتها من إرادات الصوت الفردي، وهو أمر صعب، غالبا ما يتم التحايل عليه بتعميم الصور التي ينتج فيها الأفراد تعبيراتهم ضمن الاختيار الاحتجاجي، وتدريجيا تتحول تلك التعبيرات الفردية إلى أقانيم هادية، ليس لأنها تكشف عن طاقة تصويرية على قدر كبير من الطرافة، تفتن الإعلام ووسائط التواصل الحديثة، لكن أيضا لأنها تتماهى مع الإحساس الجماعي، وتعصمه من قدر استنزال العنف.

في تعبير بالغ الدلالة لجون بورجر يرى أن نظرة المتظاهرين إلى المدينة التي تحيط بخشبة مسرحهم. غالبا ما تتغير، “ففي فعل التظاهر، يمارسون قدرا من الحرية والاستقلال أي المزيد من الطاقة الخلاقة، مع أن نتاج هذه الطاقة لا يفارق طابعه الرمزي” لأن هذا الطابع، في النهاية، هو العماد في كل هذه التركيبة القائمة على إنشاء صوت سياسي يقول بفصاحة وجرأة ووضوح رأيه ومطالبه لسلطة اكتفت دوما بالاستماع لصوتها الوحيد.

14