وشوشات من خارج غزة

الناس تُركوا في غزة بين مطرقة الاحتلال وسندان حماس وأُجبروا على تحمل الألم من دون أنين أو ربما حاول بعضهم على قلتهم أن يمارسوا انتفاضة إلكترونية مثل "بدنا نعيش" و"خطفوا غزة".
السبت 2023/02/04
بين مطرقة الاحتلال وسندان حماس

قدم مركز اتصالات السلام ومقره نيويورك عملا كرتونيا من ثمانية أجزاء مترجما إلى اللغة الإنجليزية والفرنسية والفارسية، يسرد بعضا من معاناة الغزيين، وينقل فيها تصريحات منسوبة إلى أناس يعيشون داخل غزة أجريت معهم مقابلات على مدار عام 2022. وتدور الفكرة الأساسية للعمل حول واقع الغزيين تحت حكم حماس، مع تحميلها المسؤولية الكاملة في تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية كتبعات لسياستها التصعيدية التي لم تجلب إلّا الدمار لغزة في كل مواجهة تخوضها ضد إسرائيل.

من حق أنصار حماس وضع العديد من علامات الاستفهام حول هوية القائمين على المركز الذي يزعم أنه يقدم رؤية تهدف إلى حل النزاعات القائمة على الهوية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، سواء بين الديانات التوحيدية أو الطوائف والأيديولوجيا المتنافسة، ومن حقهم أيضا أن يتساءلوا عن هوية صاحب فكرة “وشوشات غزة” وعن قربه وعلاقته بالمشهد الفلسطيني وانتمائه السياسي، وعن حقيقة ما إذا تم فعلا نقل شهادات حية من غزة خاصة وأن مثل ذلك النوع من الانتقادات والأفكار التي نقلها العمل الكارتوني يقود إلى “حبل المشنقة” وليس من السهل إقناع أي شخص يعيش داخل غزة أن يتكلم بمثل هذا الكلام الذي نقله مركز السلام حتى وإن تم إقناعه بأن هويته ستبقى مخفية: إن انتقاد حماس من داخل غزة وعن طريق وكالة تنشط من نيويورك، وبتلك الدرجة من الجرأة يعتبر مخاطرة بالحياة أو بالأحرى “لعبا مع الموت”.

قد يشكك البعض في أهداف وغايات السلسلة الكرتونية، لكن لا يمكن لعاقل أن ينكر بأن جزءا كبيرا مما نشر عبر السلسلة يمثل الواقع المعيش فعليا في غزة: الحياة في القطاع عبارة عن روتين مستمر مليء بمنغصات الحياة، من انقطاع للكهرباء إلى غلاء في الأسعار إلى طوابير أمام مكاتب تصاريح العمل للحصول على تصريح عمل في دولة الاحتلال، حتى الأطفال لم يسلموا من ضنك غزة، فالمدارس تغلق أبوابها بعد كل منخفض جوي يجعل من شوارع غزة وديانا جارية بسبب انهيار البنية التحتية للصرف الصحي، وغياب العتاد الذي يسمح بالتعامل مع الطوارئ المناخية. والأنكى من كل هذا أن الجباية التي تعتبر مصدرا مهما لتغطية مصاريف الحكومة وتشمل جميع مناحي الحياة لا تراعي الظروف الاقتصادية القاهرة التي يمر بها سكان القطاع، ليشكل كل هذا كوكتيلا من القهر يشربه الجميع باستثناء أبناء بعض القيادات وميسوري الحال من التجار.

المشكلة الأساسية لحماس والتي جعلت سهام الانتقادات تطالها، ليست في تبني المقاومة كخيار.. وإنما في فاعلية الخيارات التي تستعملها وانعكاساتها على الجبهة الشعبية الداخلية وعلى مفهوم الصمود

إن المشكلة الأساسية لحماس والتي جعلت سهام الانتقادات تطالها، ليست في تبني المقاومة كخيار تدافع به عن القضية المركزية للشعب الفلسطيني، وإنما في فاعلية الخيارات التي تستعملها وانعكاساتها على الجبهة الشعبية الداخلية وعلى مفهوم الصمود، وعدم الأخذ بعين الاعتبار مفهوم الطبيعة البشرية، فالمقاومة لا تعني بأي شكل من الأشكال إلغاء مظاهر الحياة وبرمجة الناس على الاستعداد للمواجهة بعد كل تصعيد، دون القدرة على تحمل تبعات المواجهة وإغفال الأثر النفسي الذي يترتب عن خسارة المال والأهل والدخول في المجهول.

والمؤسف أن الحركة تعترف بذلك وتقوله بشكل صريح، وهو ما جاء على لسان القيادي يحيى السنوار في ذكرى انطلاقة حماس الأخيرة، حيث قال “لقد اتهمنا خلال المرحلة السابقة بأننا نضع مصلحة أهلنا وشعبنا ورزقهم وظروف حياتهم ضمن منظومة حساباتنا خلال الاستحقاقات لمواجهة العدو، وهي تهمة نعترف بها، ونتشرف بأنها في صميم حساباتنا، لأننا نؤمن بأن الحاضنة الشعبية يجب أن تكون قادرة على مواصلة الطريق للتحرير والعودة”.

ولكن هل يكفي الإيمان بأن الخيارات التي تنتهجها حماس في الهدنة والتصعيد والحرب صحيحة وغير قابلة للنقاش والاعتراض، وأن أي محاولة للاعتراض عنها تعتبر خيانة عظمى؟

مشكلة أخرى لا تقل أهمية عن المشكلة الأساسية وهي تواصل حماس مع العالم الخارجي وقدرتها على التسويق للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية، أو حتى على المستوى العربي، فالحركة التي رهنت علاقاتها الخليجية بالتحالف مع إيران، وراهنت على محور المقاومة، تجد نفسها معزولة عن محيطها الإقليمي ومصنفة كحركة إرهابية من قبل العشرات من الدول المؤثرة في المجتمع الدولي، وحتى تحالفها مع تركيا لم يكن سوى خدمة مجانية لرفع رصيد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الشعبي في العالم العربي، عندما كان في حاجة إلى ذلك. هذا الموقف يجعل من وضع حماس شبيها بالقارب التائه في عرض البحر.

لقد ترك الناس في غزة ليعيشوا قدرهم بين مطرقة الاحتلال وسندان حماس وأُجبروا على تحمل الألم من دون أنين، أو ربما حاول بعضهم على قلّتهم أن يمارسوا انتفاضة إلكترونية مثل “بدنا نعيش” و”خطفوا غزة”، إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل ما دام السواد الأعظم من الناس يعيشون تحت سلطان الخوف الذي يجبرهم على “الوشوشة”، أو يخلطون ما بين قول الحقيقة ودعم المقاومة، أو ربما لأن الغزيين متعلقون بشدة بقضيتهم إلى درجة تنسيهم الوجع وتغفر خطايا حماس وسوء تقديرها في الدخول في مواجهات عسكرية مباشرة مع الاحتلال، كان من الممكن تفاديها نظرا إلى الموقف السيء الذي تعانيه من الداخل.

9