وساطة مصرية متأخرة بين السودانيين

لا أحد يعلم طبيعة الطرح المصري الخاص بالوساطة ورد القوى السودانية عليه ما يعني أن هناك تكتما حول شيء تتم بلورته أو أن الزيارة اكتفت باستكشاف ما يجري في السودان.
الاثنين 2023/01/09
مصر تريد أن تكون قريبة من الأزمة السودانية

طرحت بعض القوى والمنظمات الإقليمية مبادرات وتحدثت عن وساطات لحل الأزمة السياسية في السودان، بعضها قبل أو رفض أو تعثر، إلا مصر التي يمثل لها هذا البلد أهمية إستراتيجية فائقة، وهو ما أراح سودانيين وجدوا في ابتعادها خيرا لهم، وأزعج آخرين رأوا أن طرح القاهرة مبادرة ورعاية وساطة أكثر واقعية من غيرها.

ربما يكون نأي القاهرة عن التدخل السياسي في أزمة أنشبت مخالبها مفهوما لمن يتابعون تطور العلاقات مع الخرطوم، حيث بلغت حساسية بعض القوى تجاه مصر حدا يجعلها ترفض أي مقاربة قادمة من شمال الوادي باتجاه جنوبه، وارتفعت درجة عدم الثقة لدرجة التشكيك في كل توجه مصري مهما كان يحمل فوائد سودانية.

نكأت زيارة رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية اللواء عباس كامل إلى الخرطوم قبل أيام جرحا سياسيا حاول الكثيرون نسيانه. جرح يتعلق بدور القاهرة في دعم الجيش السوداني في السلطة أو عزوفها عن المشاركة في تسوية الأزمة السياسية بما ينهي الانسداد الراهن، فقد فتحت الزيارة الباب لاجتهادات وتكهنات وتخمينات حول وساطة لجمع القوى السودانية تحت مظلة مصرية قريبا.

لم تعلن أي جهة مصرية عن وساطة أو تحرك لجميع القوى السودانية، العسكرية والمدنية بالقاهرة، لكن معلومات رشحت من قيادات في تحالف قوى الحرية والتغيير قالت إن رئيس المخابرات عرض خلال لقاء عقده مع قوى مدنية مبادرة بهذا المعنى.

◙ الصورة النمطية لعمل المخابرات في أي دولة تؤدي إلى التأثير على المردود العلني الذي تقوم به، ما يجعلها في حاجة إلى رافعة سياسية معروفة

انتهت الزيارة وبقيت توابعها، فلا أحد يعلم طبيعة الطرح المصري الخاص بالوساطة ورد القوى السودانية عليه، ما يعني أن هناك تكتما حول شيء قد تتم بلورته أو أن الزيارة اكتفت باستكشاف ما يجري في السودان، بلا وساطة أو مبادرة.

في الحالتين تأكد أن مصر أكثر انزعاجا مما يجري في السودان الآن، وتخشى أن تؤدي التطورات القاتمة إلى المزيد من التدهور على بوابتها الجنوبية، في ظل تلميح بعض الأقاليم باللجوء إلى حق تقرير المصير، وتعثر وساطة اللجنة الرباعية المشكلة من الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، واللجنة الثلاثية المكونة من الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة إيغاد.

يواجه الاتفاق الإطاري بين المكون العسكري وقوى مدنية ورعته الجهتان وتم التوقيع عليه في الخامس من ديسمبر الماضي منغصات يمكن أن تؤخر التوقيع النهائي عليه، وتدخله النهاية الغامضة لاتفاقات سابقة تاهت وسط التجاذبات بين القوى السودانية، وهو ما جعل القاهرة تريد أن تكون قريبة من الأزمة، وربما تفكر في التخلي عن حذرها في التعامل السياسي مع السودان.

بدت زيارة اللواء عباس كامل إلى الخرطوم استكمالا لتوجهات مصرية تتعامل مع أزمات السودان التي يغلب عليها البعد الأمني، وحتى مناقشة القضايا السياسية يقوم بها مسؤولون أمنيون، وهي طريقة أقلقت ولا تزال تقلق قوى مدنية في السودان تتصور أن أزمتهم في حاجة إلى رؤية سياسية من القاهرة لا تقل أهمية عن نظيرتها الأمنية.

في الوقت الذي مضت فيه زيارة رئيس المخابرات المصرية للخرطوم إلى حال سبيلها استدعى البعض من المتابعين للتطورات الإقليمية الطريقة التي تتعامل بها تركيا مع الأزمات المنخرطة فيها، مثل سوريا والعراق وليبيا، وما يرتبط بها من قوى دولية فاعلة، حيث تتحرك أنقرة من خلال ثلاثي يضم وزيري الدفاع والخارجية ورئيس المخابرات الوطنية، الأمر الذي وفر تكاملا لسياستها الخارجية.

بعيدا عما حققه هذا المثلث من تقدم في الدفاع عن المصالح التركية أو قبولنا ورفضنا له، لكنه يمثل نموذجا للتعامل مع القضايا الحيوية في المنطقة التي تحتاج إلى قيادات هذا الثلاثي، فلا أحد يستطيع العمل بمفرده بعيدا عن الآخرين، لأن طبيعة الأزمات الإقليمية تتطلب تكاملا بين الدفاع والخارجية والمخابرات، فلكل منها الدور المنوط القيام به، فلا الأمن وحده يحقق التفوق، ولا السياسة يمكنها الحفاظ على المصالح الحيوية للدولة بمفردها.

تحتاج مصر إلى وصفة عمل شرق أوسطية ناجحة من هذا النوع، فهي بلد له معطيات إقليمية ودور كبير، وتملك من المقومات ما يساعدها على جني ثمار عديدة من وراء إعادة إنتاج هذا الثلاثي على الطريقة المصرية، ولتكن البداية من السودان الذي يبدو مهيأ للقبول به، بما يحدث التوازن الغائب في التوجهات حيال الخرطوم.

وجود القيادات الثلاث في أي وفد يذهب إلى السودان يكفل له مقدما استقبالا طيبا من القوى المدنية المتوجسة من أي مقاربة أو تحرك تقوم به القاهرة، بصرف النظر عن حجمه ونوعه، حيث يتم تأويله أمنيا بأنها لم تتخل عن رؤاها السابقة، وتفسيره عسكريا من زاوية أنه يصب لصالح الجيش الذي يحكم على قبضة الأمور في الخرطوم.

◙ زيارة اللواء عباس كامل إلى الخرطوم نكأت جرحا سياسيا حاول الكثيرون نسيانه. جرح يتعلق بدور القاهرة في دعم الجيش السوداني في السلطة

تستطيع الوصفة الثلاثية أن تضمن لمصر رفع مجموعة من الحواجز المعنوية التي تعوق أي تحرك تقوم به نحو السودان، وتنهي الصفة الأمنية التي تلازمها على الدوام، فوجود وزيري الدفاع والخارجية، بجانب رئيس المخابرات، يمكن أن يقنع القوى السياسية أن الأمر متعدد الأبعاد، ولو كان الشق الأمني هو محور أي طرح مصري.

كل الاجتماعات التي يعقدها الثلاثي التركي تحمل مضمونا أمنيا بامتياز، وكل القضايا المشتبكة معها، في سوريا أو العراق أو ليبيا، يظهر فيها ذلك بوضوح، لكن توزيع الأدوار يتم بطريقة مرنة فلم نسمع أن أحدا حصر رؤية أنقرة في الشق الأمني، وهي تتحدث كثيرا عن منطقة آمنة في شمال سوريا لم تتعمد إخفاء وزير الخارجية، بما خفف عنها الضغوط التي يمكن أن تكبلها عسكريا.

تحتاج مصر إلى تفعيل هذه الوصفة ليس مع السودان فقط، بل مع ليبيا وإثيوبيا والقضية الفلسطينية، ويعمل الحلف الثلاثي بالتناغم، فغالبية الاجتماعات واللقاءات التي تعقد بشأن هذه الأزمات يتقدمها وجه المخابرات المصرية، ما يخلق انطباعات خاطئة من البداية بطبيعة عمل المخابرات السرية تصطحب معها هواجس تثير شبهات حول الهدف، ولو كان في صميم عملها أن تلعب دورا محوريا في جميع الأزمات.

تؤدي الصورة النمطية لعمل المخابرات في أي دولة إلى التأثير على المردود العلني الذي تقوم به، ما يجعلها في حاجة إلى رافعة سياسية معروفة، وقد حدثت زيارات وجولات سابقة ضمت رئيس المخابرات ووزير الخارجية المصري إلى كل من السودان وإثيوبيا وغيرهما ولم يصاحبهما جدل أو لغط كثيف.

مطلوب أن يتحول ذلك إلى منهج وآلية عمل منعا للتفسيرات السلبية التي يمكن أن يحملها العمل بصورة منفردة، وإذا أضيف لهما وزير الدفاع سوف يجني الأداء المصري الإقليمي مكاسب كبيرة في الفترة المقبلة.

9