وزير الإعلام السوداني يرجم حميدتي

في مشهد تكتنفه الغرابة وتتلبسه إشارات دينية وسياسية متداخلة، أقدم وزير الإعلام السوداني خالد الإعيسر على تنظيم فعالية اعتبرها البعض شاذة عن المألوف في السلوك الرسمي حيث قام بالتنسيق مع جهات وجماعات محسوبة على تيارات دينية بتنفيذ تمثال رمزي لقائد قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، ليتم رجم التمثال بالحجارة أمام جمهور تمت تعبئته بشعارات التكبير والتهليل، في مشهد يختلط فيه الطقس الديني بالرسالة السياسية.
لكن هذا الحدث، في ظاهره العجيب، يخفي تحته طبقات من المعاني والدلالات التي تستحق التأمل والتحليل. فالرجم، كفعل رمزي، لم يُوظف هنا في سياق درامي أو ثقافي، بل في سياق سياسي متخم بالشحن الأيديولوجي ما يجعله بابا لفهم عميق للمنعطف الذي تمر به الدولة السودانية، لاسيما في ظل صراع طويل بين العسكر وقوى الثورة، وبين التيارات المدنية والإسلامية.
من أولى الدلالات التي يقف عليها هذا الحدث، هي عودة مظاهر الهوس الديني إلى الواجهة. فالرجم، كعقوبة دينية، لا يُمارس إلا في سياقات الشريعة، وغالبا ما يرتبط بالانتهاكات الأخلاقية الكبرى، لكن حين يُوظف ضد تمثال لشخصية سياسية معادية، فإن الأمر يتعدّى حدود الرمزية إلى ملامسة جوهر منطق “التكفير السياسي”، أي تحويل الخصومة السياسية إلى عداوة دينية مقدسة.
◄ ما حدث، وإن بدا في لحظته مدهشا أو مستفزا، يجب ألاّ يُقرأ كحالة شاذة، بل كمرآة لحالة عامة من الانهيار في القيم المؤسسية، والضياع في الرؤية السياسية
هذا السلوك يكشف أن مسألة “التأصيل” – التي كانت ركيزة أيديولوجية للنظام الإسلامي في التسعينات – ما زالت تطل برأسها في المشهد السوداني، لكن هذه المرة في لحظة انهيار الدولة، وتضعضع بنية المؤسسات، الأمر الذي يسمح لتلك التيارات بإعادة إنتاج نفسها تحت لافتات جديدة، بينما تستخدم أدوات قديمة ملبّسة بالقداسة.
ما حدث يكشف عن أزمة أعمق من مجرد طقس ديني، إنها أزمة نخب، وعجز واضح عن تقديم بدائل سياسية أو اقتصادية ملموسة. الفعالية – رغم ضجيجها – لا تُحدث أثرا فعليا على الأرض، لكنها تعوّض الفشل الميداني بطقس تعبوي استعراضي، يُوهم الجمهور بتحقيق انتصار معنوي، في حين أن الواقع لا يتغير.
وهنا يحضر مفهوم “البديل الرمزي” الذي تتبناه الأنظمة أو التيارات حين تعجز عن إحداث الفعل الواقعي. فرجم التمثال هو محاولة بديلة لإلغاء الخصم في الوعي الجمعي، حين يتعذر الانتصار عليه ميدانيا أو فكريا. وهو ما يشبه محاكم التفتيش المعنوية التي لا تقضي على الشخص، بل على صورته، وعلى رمزيته، أمام جمهور مشحون عاطفيا.
في تحليل أعمق، يمكن القول إن هذه الفعالية ليست سوى تعبير عن عودة الإسلاميين إلى المشهد من خلال ما يمكن تسميته بـ”إستراتيجية الرمز”.
إن رجم تمثاله لا يُقرأ فقط كموقف ضده، بل كتعبير عن رغبة دفينة في إحياء خطاب “التطهير” الذي مارسته الحركات الإسلامية في حقبة الإنقاذ. وهذا التطهير لا يبدأ من الفعل القانوني أو المحاكمة، بل من الاغتيال الرمزي.
وعلى ضوء هذا الفعل، يبدو أن خطاب “الشريعة” يعود، لا بوصفه منظومة قانونية، بل بوصفه أداة سياسية لتصفية الخصوم، وتقديم مشروع “إسلامي” جديد، في شكل مقاومة أخلاقية للفساد، والانحراف، والتغريب. إنها عودة إلى الدولة الرمزية الإسلامية، لا إلى دولة القانون.
◄ هذا السلوك يكشف أن مسألة "التأصيل" – التي كانت ركيزة أيديولوجية للنظام الإسلامي في التسعينات – ما زالت تطل برأسها في المشهد السوداني، لكن هذه المرة في لحظة انهيار الدولة، وتضعضع بنية المؤسسات
أن يكون وزير الإعلام – لا أحد شيوخ الجماعات المتطرفة – هو من يُشرف على هذه الفعالية، فإننا أمام مشهد مخيف لتحوّل الإعلام الرسمي إلى منصة للخطاب الديني الشعبوي. الإعلام، الذي يُفترض أن يكون ناطقا باسم الدولة، ومروجا لقيم التعدد والاعتدال، تحول إلى بوق أيديولوجي يستدعي أشباح الماضي، ويؤسس لعقلية الكراهية والإقصاء.
هذا يعكس فراغا أخلاقيا كبيرا، ليس فقط في سلوك الوزير، بل في بنية الدولة التي تسمح بمثل هذه الممارسات أن تُجرى باسمها. فالمؤسسات التي ينبغي أن تُعلي من قيم العقلانية، والانفتاح، والتسامح، صارت أسيرة خطاب شعبوي سطحي لا يُنتج سوى الكراهية والانقسام.
فعالية الرجم الرمزي تُظهر، بما لا يدع مجالا للشك، أن الإعلام الرسمي في السودان يعاني من خواء عميق، ليس فقط في الرسالة، بل في الفهم. هذا الإعلام، بدلا من أن يكون منصّة لإعادة بناء الوعي الوطني انحدر إلى مستوى “المشهدية الدينية”، واختلطت عنده السياسة بالأيديولوجيا، حتى بات عاجزا عن التفريق بين الفعالية الوطنية والمسرحية التعبوية.
إنه إعلام مأزوم، فاقد للبوصلة، تحكمه اللحظة والانفعال، لا الرؤية والتحليل. وهذا يعكس حجم الأزمة في العقل التنفيذي للدولة، الذي صار يُراهن على الطقوس بدل السياسات، وعلى الصراخ بدل المشاريع.
ما حدث، وإن بدا في لحظته مدهشا أو مستفزا، يجب ألاّ يُقرأ كحالة شاذة، بل كمرآة لحالة عامة من الانهيار في القيم المؤسسية، والضياع في الرؤية السياسية، والتوظيف السيء للدين. لكنها أيضا جرس إنذار بأن قوى الإسلام السياسي، وإن بدت في الظل، فإنها تتلمس طريق العودة من خلال أدوات قديمة تُلبسها وجوها جديدة.
يبقى السؤال الأكبر: هل يتجه السودان نحو استعادة مشروعه المدني الديمقراطي، أم أننا نشهد مقدمات دولة الطقس والشعار؟ وما هو دور القوى المدنية في مواجهة هذا الانحدار الرمزي؟
إن الإجابة لا تُبنى من خلال الغضب فقط، بل من خلال مشروع مضاد يقوم على العقل، والقانون، والعدالة.