وخزة أميركية لإجبار إثيوبيا على تنازلات في أزمة سد النهضة

واشنطن تريد توازنا بين علاقتها الخاصة بأديس أبابا ومصالحها الإقليمية مع القاهرة.
السبت 2020/08/29
رد أميركي قاس على المناورات الإثيوبية

أفادت مجلة “فورين بوليسي” الأميركية بأن وزير الخارجية مايك بومبيو وافق على خطة لوقف مساعدات تقدمها بلاده لإثيوبيا إثر قضية سد النهضة، في خطوة وصفها متابعون بمثابة عقاب سياسي هدفه ردع أديس أبابا عن تعنتها في أزمة السد بإصرارها على ملئه بشكل أحادي، كما ترمي الخطوة إلى طمأنة القاهرة التي لجأت إليها كوسيط، وتؤكد الخطوة الأميركية بذلك أن دور واشنطن لم ينته بعد في هذا الملف، وأن صمتها حياله كان هدفه منح فرصة للوساطة الأفريقية.

 أصبحت العقوبات الأميركية أحد أهم الأسلحة التي تلجأ إليها واشنطن في التعامل مع الأزمات الإقليمية والدولية، ففي ظل تراجع تدخلاتها الخارجية باتت هذه الوسيلة تحتل أولوية كبيرة، وتشمل نوعين، أحدهما فرض عقوبات مباشرة على الخصوم والمنافسين، مثل إيران وكوريا الشمالية والصين وروسيا، والآخر حرمان الدول المقصودة من مزايا درجت واشنطن على منحها لحلفائها، مثل مصر عندما اقتطع منها جزء من المساعدات المقدمة إليها، ثم أعيد عندما تحسنت معها العلاقات.

لجأ الرئيس دونالد ترامب إلى النوع الأول كثيرا، وبالغ في التعويل عليه كوسيلة مثلى لتحقيق أهدافه، ولم يسرف في النوع الثاني، لأن استخدامه يشي بأن هناك فتورا في العلاقة السياسية يمكن أن يتصاعد ما لم يتم احتواء أسبابه، وهو ما يحدث مع إثيوبيا.

وأكدت مجلة فورين بوليسي الأميركية الخميس أن وزير الخارجية مايك بومبيو وافق على خطة لوقف المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى إثيوبيا بقيمة 130 مليون دولار، ولم تحدد المجلة تفاصيل خفض المساعدات، غير أنها نقلت عن مسؤولين أميركيين وأعضاء في الكونغرس، أن الدعم المتوقف يشمل “مساعدات أمنية ومعونات لمكافحة الإرهاب والاتجار بالبشر وتطوير التعليم والتدريب العسكري”.

وأشارت فورين بوليسي في تقرير سابق لها، بعد فشل وساطة واشنطن في ملف سد النهضة في فبراير الماضي، إلى وجود اتجاه داخل الإدارة الأميركية لحجب بعض المساعدات عن إثيوبيا، وأن إدارة ترامب تدرس المسألة للتعبير عن رفض تعنت الأخيرة، ملمحة إلى أن الحجب قد يصل إلى حوالي 400 مليون دولار. وبصرف النظر عن القيمة المادية، فالمعاني الرمزية هنا مهمة، وترسل مجموعة من الرسائل إلى كل من مصر وإثيوبيا، وأن دور أميركا لم ينته بعد في ملف سد النهضة، وعدم تدخلها خلال الستة أشهر الماضية غرضه منح فرصة لوساطة الاتحاد الأفريقي، التي لم تحقق تقدما ملموسا حتى الآن.

تواطؤ أم تهاون

تريد واشنطن أن توفي بوعودها للقاهرة التي لجأت إليها كوسيط أو طرف رابع في أزمة سد النهضة، لكنها لم تتمكن من القيام بالضغط المتوقع على أديس أبابا، أو تلوح بحجب ما تقدمه لها من مساعدات، ما جعل القاهرة تخفض من مستوى ثقتها في الإدارة الأميركية، وتقلل من رهانها على إمكانية مساعدتها في سد النهضة، وتبحث عن بدائل أخرى.

ظهر هذا المحدد في طرق القاهرة لأبواب مختلفة غير الولايات المتحدة في أزمة السد، منها مجلس الأمن الدولي، وزيادة وتيرة الانفتاح على موسكو، وعندما أرادت واشنطن التدخل في الأزمة الليبية بطرح مبادرة لتحويل سرت والجفرة إلى منطقة منزوعة السلاح لم تجد تعاونا كاملا من القاهرة، وبدأت تشعر بأن مصداقيتها لدى حلفائها في المنطقة يمكن أن تتأثر سلبا، إذا تواصل تقاعسها، واستمر ارتباكها في التعامل مع الأزمات الإقليمية.

رغم الطعنة التي تلقتها الولايات المتحدة من إثيوبيا في رفضها التوقيع على المسودة التي قدمتها في فبراير الماضي، تجنبت الإدارة الأميركية التلويح مباشرة بالضغط عليها، ما جعل واشنطن تُتهم بالتواطؤ أو التهاون من قبل دوائر مصرية، وتعمل سرا على تشجيع أديس أبابا لمواصلة تعنتها في المفاوضات، وبدت كأنها توفر شبكة أمان لها، أو منحتها ضوءا أخضر بأنها لن تتدخل لصالح القاهرة.

تعزز هذا الأمر عندما أقر مايك بومبيو في زيارته لأديس أبابا في فبراير الماضي بأن المفاوضات يمكن أن تستغرق وقتا طويلا، قبيل أيام قليلة من عرض المسودة الأميركية للتوقيع عليها في واشنطن من جانب مصر وإثيوبيا والسودان، حيث عبّر كلامه عن أنه يتفهم رؤية أديس أبابا، وعدم استعداد بلاده لممارسة ضغوط عليها.

وزير الخارجية مايك بومبيو وافق على خطة لوقف المساعدات التي تقدمها واشنطن إلى إثيوبيا بقيمة 130 مليون دولار

بعدها بدأت إثيوبيا تتمادى في مناوراتها وألاعيبها، وتنتقل من مربع إلى آخر، لتمنع القاهرة من ملاحقتها على المستويين الإقليمي والدولي، وبما أن الراعي أو الوسيط الأميركي الأول رفع يده عنها، فلدى إثيوبيا مساحة أكبر للتشدد في مواقفها.

وجدت الولايات المتحدة أن الصمت على إثيوبيا قد يفقدها مصر، لأن قضايا المياه مصيرية، ولن تفرط الأخيرة في حقوقها، ويمكن أن تختل التوازنات التي تقيمها القاهرة بين القوى الكبرى بما يضر بمصالح واشنطن في ملفات عديدة، وربما تنحاز لخصومها أحيانا في اللحظات الفارقة.

وخصصت واشنطن مليار دولار مساعدات لإثيوبيا منذ عام 2008، باعتبارها من الدول الصاعدة والتي يمكن الاعتماد عليها لضبط الأوضاع على بوصلتها في شرق أفريقيا، وصعدت وهبطت هذه القيمة مع تغير الإدارات الأميركية المتعاقبة، غير أنها حافظت على قوامها الرئيسي مع دولة تربطها علاقة خاصة بها، وترى أنها واعدة، ويمكن أن تتحول إلى نموذج ليبرالي في المنطقة.

يمثل المساس بهذه المساعدات بالصورة التي أعلنت عنها فورين بوليسي أخيرا نوعا من العقاب السياسي، وهو ما فهمه جيدا رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، الذي لا يستطيع الانحياز تماما نحو الصين خوفا من عقاب أشد، ولن يستطيع تجاهل هذه الإشارة في توقيت بالغ الحساسية، حيث بدا قويا بالخطوة المنفردة للملء الأول لخزان السد، ويستعد لعبور المزيد من التحديات، اعتمادا على تجاهل واشنطن لردعه.

تغير في المعادلات

غاية لم تُدرك
غاية لم تُدرك

سارع الرجل للذهاب إلى الخرطوم الثلاثاء الماضي في توقيت يزور فيه مايك بومبيو العاصمة السودانية، على أمل أن يتمكن عبدالله حمدوك رئيس وزراء السودان من تهيئة الأجواء للقاء بينهما، لكن بومبيو أنهى زيارته للخرطوم دون لقاء آبي أحمد، الذي فهم أنه لا تغيير متوقعا في الموقف الأميركي.

الأدهى أن بومبيو اتفق مع حمدوك على أن “تحقيق اتفاق مفيد بين السودان وإثيوبيا ومصر بشأن ملء وتشغيل سد النهضة أمر حاسم للاستقرار الإقليمي.. وستبذل واشنطن والخرطوم كل جهد ممكن للتوصل إلى نتيجة ناجحة للمفاوضات الحالية”.

تشعر أديس أبابا بالقلق، لأن واشنطن عازمة على استئناف دورها، ويمكن أن تستعيد نشاطها في الإمساك بالدفة في ظل فقدان الاتحاد الأفريقي القدرة على التعامل مع الأزمة، وعدم تمكنه من إبعادها عن التجاذبات التي دخلتها.

تفسر المرونة الظاهرة التي أبداها آبي أحمد في ملف السد خلال زيارته للخرطوم، والخطاب الذي تبناه، وهو أقل تشددا مما سبق، رغبته في عدم الصدام مع الولايات المتحدة، ولذلك ربما يبدي مرونة أكبر الفترة المقبلة، لأنه فهم المضمون الذي تنطوي عليه رسالة قطع جزء من المساعدات، حيث تعني أنها قابلة للمزيد من القطع، ويمكن أن تتطور لتلحق الأذى بالجانب الصلب في العلاقات المشتركة.

يصعب على إثيوبيا أن تربح السد وتخسر أميركا، أو العكس، في هذا التوقيت الحرج، ويصعب أكثر أن تتجه نحو الصين أو روسيا، ففي ذلك انتحار لآبي أحمد وطبقته السياسية، التي تعاني أزمات داخلية حادة. وليس أمامه سوى ممارسة سياسة استنزاف الوقت التي يجيدها، ويبدو كمن يريد التوصل إلى اتفاق عادل، ويتخلى عن التشدد الذي يلجأ إليه مع عدد من المسؤولين، كرسالة ثقة وثبات، خاصة أن السودان يتسرب منه وينحاز لموقف مصر، على أمل أن تنشغل إدارة ترامب بانتخابات الرئاسة الأميركية، في نوفمبر المقبل.

تكمن المشكلة في أن مصر والسودان يعلمان جيدا هذه الحيل، ولن يسمحا بالمزيد من المماطلات، وإذا لم يتم التوقيع على اتفاق مُلزم قريبا، قد يتعرض آبي أحمد لضغوط من جهات متباينة، تجبره على الانصياع، لذلك يبحث الآن عن صيغة مناسبة تخرجه من دوامة تتشابك فيها المكونات الداخلية مع الإقليمية والدولية، ليفلت من التداعيات التي يحملها العقاب الأميركي المحدود.

7