...وحسمت نتيجة الاستفتاء
انتهى عمليا الاستفتاء على بقاء أو رحيل بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. لم تعد هناك أي أوهام حيال التصويت لصالح بقاء بريطانيا في أوروبا بعد مقتل النائبة عن حزب العمال جو كوكس.
آخر ما كانت تحتاجه حملة الخروج من الاتحاد هو تلطيخ ثيابها برذاذ العنصرية، التي لم يحجبها ثوب الكراهية طويلا قبل أن تصبح “قاتلة” لمسوغات أعرق الديمقراطيات في العالم.
لا تكمن الفكرة في شخص موتور اغتال بإصرار نجمة حزب العمال الصاعدة، وفتح جرحا قد اندمل منذ تسعينات القرن الماضي في الجسد السياسي البريطاني، لكنه أيضا مد جسرا أبديا بين بريطانيا وأوروبا لم يعد قابلا للهدم.
عندما يتوجه الناخب البريطاني صباح الخميس إلى مراكز الاقتراع من أجل الإدلاء بصوته، ستكون قد اختمرت داخله صورة جو، ليس باعتبارها تلك النائبة التي قتلت دفاعا عن التعددية والانفتاح، لكن جو الشهيدة التي قتلت كي يعيش التحالف الأزلي.
قسم الجدل حول هذا التحالف بريطانيا بقسوة. لم يعد هناك أحد يستطيع أن يدعي أنه قادر على إعادتها معا قطعة واحدة.
لن ينقشع الغبار الذي لطخ الحياة السياسية والاجتماعية ومجرياتها الاقتصادية في بريطانيا قريبا. سيحتاج الأمر إلى ما هو أكثر من ركض رئيس الوزراء ديفيد كاميرون يمينا ويسارا لتوحيد جبهة أوشكت تصدعاتها أن تحيل إرثه أنقاضا.
هل يثبت إطلاق النار على كوكس وطعنها عدة مرات حقا أن ثمن الخيار بين البقاء في بريطانيا أو مغادرتها لم يدفع بعد؟ وما هو القالب النهائي الذي ينتظر مجموعة من الانتهازيين والطموحين والمجانين أن يروا بريطانيا عليه؟
مجرد الذهاب إلى التسوق في أي سوبرماركت في أحد أحياء لندن سيكون كافيا للعثور على إجابة. سياسات الخوف نجحت بالفعل في إخافة الناس.
ليست لندن هذه المدينة التي يهيمن عليها الإنكليز الأصليون كما الكثير من المدن والقرى البعيدة. رغم أنها الأكثر تنوعا في أوروبا لم تسلم المدينة من الخوف من الكراهية، الذي دأبت طوال الأشهر الماضية على مقاومته بكراهية الخوف. تستطيع تخيل كم تمكنت هذه الثقافة من البسطاء والقرويين والحالمين بالفرار من قيود “وحش” اسمه الاتحاد الأوروبي.
لم تذهب جهود بوريس جونسون ونايجل فراج لطبع هذه الصورة في أذهان هؤلاء هباء. ما لم يدركه جونسون وفراج أن أيديولوجيا الخوف والميكيافيلية السياسية سيطبعانهما بما هو أكبر من صورة السياسيين اللذين جرا بريطانيا من رخاء التعايش إلى المجهول الذي ينتظر بريطانيا في عزلتها.
سيذكّر طموحهما أيضا بأنهما الرجلان اللذان دفعا ورقة الدومينو الأولى كي تسقط بقية الأوراق تباعا. بات جليا أن أوروبا تخشى على نفسها من التفكك جراء تطاير شرر معركة الاستفتاء البريطاني، لكن هذا ليس كل شيء.
يحارب معسكر الاستقلال من أجل استعادة السيادة المسلوبة على أراضي بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ما يريده قادته عمليا هو نقل هذه السيادة إلى الولايات المتحدة.
ينحسر مفهوم السيادة عند الكثير من اليمينيين في بريطانيا في مفهوم استعادة السيطرة على الحدود. يصيغ مايكل غوف، وزير العدل وأحد كبار قادة الحملة، هذا المفهوم عبر مخرجات تتصل بـ”حدود التحكم” الذي يروم إليه عبر الاجتهاد في إقناع جمهوره بضرورة التحكم في الحدود.
يبقى الهدف النهائي هو السيطرة على الهجرة الوافدة من أوروبا. لا يبدو معسكر الخروج مستعدا للتصالح مع المهاجرين الأوروبيين الذين ينظر إليهم كأعداء أحيانا.
يساهم هؤلاء المهاجرون في نمو اقتصاد بريطانيا ويسددون ضرائبهم ويأخذون على عاتقهم القيام بجميع الأعمال التي يستنكف الكثير من البريطانيين الخوض فيها، لكن المعضلة ليست اقتصادية أو سياسية، بل هي نفسية بالأساس.
مشكلة اليمين أنه مازال يحسر وظيفته في مقاومة “انحدار” المجتمع البريطاني أكثر إلى اليسار. المهاجرون والتنوع الثقافي والإثني والديني يغيران تدريجيا هذه المعادلة المسيحية التي يعود الكثير من مفاعيلها إلى القرون الوسطى.
لا يرغب بوريس وناجيل في رؤية قوانين حماية الطبقة البرجوازية التي عفى عليها الزمن في أوروبا تتغير. إذا أردت أن تشتري شقة صغيرة في بريطانيا فسيرتفع حاجباك ذهولا عندما تخوض في تعقيدات قوانين التملك التي تضمن لصاحب الأرض وصاحب المبنى حقوقهما على حسابك. ستكتشف نفس الشيء في قوانين الضرائب ومصاريف الجامعة وحتى شروط العمل في العطلات الأسبوعية.
اغتيلت جو كوكس لأنها كانت تكافح من أجل تغيير هذه القوانين، وتحافظ على مفاهيم التعايش والعدالة والانفتاح على الاتحاد الأوروبي الذي مازال ضامنا لـ”تحديث” بريطانيا رغم علله.
جاء اغتيال جو في مصلحة معسكر البقاء. لا أجد مسوغا أخلاقيا يدفعني إلى ترديد هذه الحقيقة، غير أنها صارت حقيقة. اقتنعت أنني على صواب عندما قال لي عضو برلمان عرف جو عن قرب خلال عمله معها في حملة البقاء “قتلوها لكنهم منحوا قضيتنا الحياة”.
كاتب مصري مقيم في لندن