وجه آخر لمعاناة الترحيل خارج فلسطين

فتح الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده مع المستشار الألماني أولاف شولتس، الأربعاء، جرحا عميقا عندما اقترح (ساخرا) على إسرائيل حل معاناتها مع حماس وفلسطينيي غزة بتوطينهم في جنوبها بصحراء النقب.
قصد السيسي من اقتراحه التذكير بالاحتلال وأن هذه المنطقة فلسطينية أصلا وفارغة نسبيا من السكان مثل سيناء التي تزايدت الإشارات إليها في الخطاب الغربي العام لحل مشكلة غزة، وزاد عليها مصريون اقتراح ترحيلهم إلى أوروبا عبر البحر المتوسط إذا كانت القيم الإنسانية فيها تعبت من مشاهد الدم الذي تريقه إسرائيل.
حظيت فكرة الترحيل إلى سيناء برفض واسع من الفلسطينيين قبل المصريين، لأنها تعني تفريغ قضيتهم من مضمونها المركزي، وهو الأرض، إذ يدركون أن من رَحلوا أو رُحلوا عقب نكبة 1948 وحرب 1967 إلى دول عربية عديدة، مثل الأردن وسوريا ولبنان ومصر، لم يعودوا إلى بيوتهم حتى الآن، والقلة التي تمكنت من العودة ذهبت إلى أماكن أخرى داخل فلسطين، وأهملت قضية اللاجئين.
◙ ما حدث من قصف مدمر في المستشفى المعمداني بقطاع غزة مساء الثلاثاء لن يمر بسهولة على الشعوب في دول غربية وعربية، ويمكن أن يتسبب في ضغوط على القيادات
تعتقد إسرائيل في إمكانية تكرار هذه الخطة ولا تدرك حجم التغيرات والتحولات الكبيرة التي حصلت في العقلين العربي والفلسطيني والاستفادة من تجارب الماضي في رفض القبول بهذا النوع من المقترحات المدمرة.
حاول السيسي تصدير الأزمة إلى إسرائيل، فالنقب لا يعرف الكثيرون في الغرب أنها صحراء شبه خالية من السكان، وتصدير الضغوط عليها والتفتيش عن جوهر القضية الفلسطينية التي تتعامل معها دول غربية عامدة بتبني وجهة نظر إسرائيل وتناسي رؤية الطرف الآخر وقدرته على تقديم أفكار أكثر إقناعا مما يقدمه الجانب الإسرائيلي.
كما أن هذا الطرح يزعج سكان إسرائيل ويدفعهم إلى التشكيك في قيادتهم التي يمكن أن تورطهم في أزمات سياسية، فعندما قُدمت فكرة سيناء كمكان جديد للتوطين اعتقدت تل أبيب أن التعاطي معها من قبل مصر من السهل تمريره في ظل أزمة اقتصادية طاحنة تمر بها، لأن المسألة جاءت مصحوبة بمغريات مادية، نسفت من خلال التلميح بخروج ملايين المصريين في الشوارع لدعم الدولة في رفض السردية الإسرائيلية.
علاوة على أن التوطين المقترح في سيناء يتبعه ترحيل أعداد كبيرة من الضفة الغربية إلى الأردن، ما يعني إنهاء القضية الفلسطينية تماما، وهو ما رفضه العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني بحسم، وتم فتح المجال لمزيد من تفنيد الروايات الإسرائيلية، ومُنح شعبا مصر والأردن ومعهما شريحة عريضة من الفلسطينيين الفرصة للتعامل بصرامة مع ما خرج بشأن ترتيب أوضاع سكان غزة في المستقبل ودفع هؤلاء الفلسطينيين إلى التشبث بالبقاء في أرضهم، فالتوطين يشبه الموت الذي يعانون منه تحت القصف الإسرائيلي.
ما يقلق المواطن الإسرائيلي تذكيره بأن نقل سكان غزة إلى سيناء لن يحل أزمة الأزمة، فمن سيتم ترحيلهم بينهم عناصر كبيرة من المتشددين وينتمون إلى المقاومة أو مقتنعون بخطابها الحاد، وعندما تتهيأ لهم الأمور سيعاودون مناكفة إسرائيل من سيناء التي تمتلك حدودا معها أطول من غزة، لأن الجيش المصري لن يعمل حارسا على أمن إسرائيل، ما يخلق بؤرة توتر جديدة.
◙ فكرة الترحيل إلى سيناء حظيت برفض واسع من الفلسطينيين قبل المصريين، لأنها تعني تفريغ قضيتهم من مضمونها المركزي، وهو الأرض
لفت الرئيس المصري إلى هذا البعد بحسم في لقائه مع المستشار الألماني بالقاهرة، لأن وجود مقاومة فلسطينية في سيناء ضد إسرائيل يعني قيام الأخيرة بعمليات قصف على الأراضي المصرية، وهو ما يستدعي ردا مماثلا من القاهرة حتما لحماية أمنها، والتمهيد للتخلي عن اتفاقية السلام والذهاب مرة أخرى إلى الحرب.
من فكروا في خيار الترحيل حصروا هدفهم في رغبتهم في تصفية المقاومة والانتقام من الحركات المسلحة، وتجاهلوا الروافد السلبية التي يمكن أن تخرج من رحم ذلك، فقد انحصر التفكير في حل أزمة حالية من دون أفق لها في المستقبل، مع يقين ساذج بأن الفلسطيني يمكن أن ينزل النهر مرة واثنتين وثلاثة ويحصل الإسرائيلي منه على النتيجة ذاتها، ويتم التخلص من عبء يؤرقه منذ سنوات طويلة، وهو خطأ جسيم بدأت تتكشف تجلياته في سوريا ولبنان، وربما الأردن.
من لجأوا إلى سوريا شكلوا تجمعا فلسطينيا يمكن أن يمثل تهديدا لإسرائيل إذا وجدوا دعما سخيا من إيران وسوريا، ولن يحول احتلال إسرائيل لهضبة الجولان دون تشكيل خليط من المقاومة المزعجة لها.
ومن استقروا في لبنان يمكن تحولهم إلى قنبلة موقوتة في وجه إسرائيل بعد الإعلان أخيرا عن تشكيل حركتي حماس والجهاد الفلسطينيتين أجنحة مسلحة لهما في جنوبه بالتنسيق والتعاون مع حزب الله طبعا، ما يُظهر وجها خفيا جديدا للتوطين.
ناهيك عما يشكله فلسطينيو الأردن من تهديد إذا لم تستطع المملكة كبح جماحهم، فأعداد كبيرة منهم لم تغب القضية الفلسطينية عن أذهانهم، والمسافة بين الضفة الشرقية في الأردن ونظيرتها الغربية في فلسطين التي قضمت منها إسرائيل أجزاء واسعة قد تصبح ممهدة للتنغيص على المستوطنين.
◙ إسرائيل تعتقد في إمكانية تكرار هذه الخطة ولا تدرك حجم التغيرات والتحولات الكبيرة التي حصلت في العقلين العربي والفلسطيني والاستفادة من تجارب الماضي في رفض القبول بهذا النوع من المقترحات المدمرة.
خلطت تصورات وأحلام وطموحات وأطماع رئيس الحكومة الإسرائيلية حيال ما أسماه بإعادة رسم الخرائط في منطقة الشرق الأوسط هواجس عديدة لدى خصومه وأعدائه وأصدقائه في المنطقة، ونبهت الكثير منهم إلى المخاطر الإقليمية التي تنطوي عليها، ومن الطبيعي أن يتم تفنيدها والرد على بعضها من قبل مصر بما يتواءم مع التهديدات البعيدة التي تحملها سياسيا وأمنيا.
تؤدي سرديات بنيامين نتنياهو إلى إحراج داعميه على المدى القريب، فلن يستطيع معظمهم مجابهة الانتقادات التي توجه إليهم من داخل بلدانهم، وهناك مقاطع كبيرة من المشهديات التي تعمدت إسرائيل ترويجها بدأت تتكشف معالمها في الغرب، وثمة حراك شعبي يمكن أن يتصاعد ضد قادة سياسيين فيه قد يكون كفيلا بإعادة تصويب البوصلة السياسية، أو على الأقل فرملة الاندفاعة الراهنة لدعم المواقف العسكرية ومنح قيادة إسرائيل ضوءا أخضر للتصرف في الزمان والمكان المناسبين.
ما حدث من قصف مدمر في المستشفى المعمداني بقطاع غزة مساء الثلاثاء لن يمر بسهولة على الشعوب في دول غربية وعربية، ويمكن أن يتسبب في ضغوط على القيادات تجعل من استمرار الفلسطينيين داخل منازلهم الأصلية خيارا مهما من خلال العودة إلى التسوية السياسية، لأن تبعات التوطين يمكن أن تصبح أخطر من البقاء.
لذلك فالوجه الآخر للترحيل سيكون أشد خطورة هذه المرة، لأن كل الخارجين من ديارهم لن يبحثوا عن الأمان لأجل الاستقرار، لكن يمكن أن يفكروا فيه استعدادا لخوض جولات من الصراع ضد إسرائيل ومن يساعدونها على تنفيذ مخططها في المنطقة والعالم، ويتم خلق كرة لهب جديدة تكبر كل يوم، ما يجعلها تحرق الكثير من الدول وتضر بمصالحها والأمن المنشود.