وثائق نادرة تكشف عجز تركيا التاريخي عن التحكم في مجالها المتوسطي

منذ توليه زمام الحكم في مصر، سعى محمد علي باشا لإقامة إمبراطورية مصرية مستقلة عن العثمانيين، تمتد من منابع النيل بالسودان وصولا إلى جبال طوروس جنوب تركيا. وهو ما جعله يخوض العديد من المعارك ضد الجيوش العثمانية، حقق فيها انتصارات متتالية كادت تودي بحكم العثمانيين لولا تحالف دول أوروبية ضده. لكن ذلك لم يمنع من احتفاظه بمكامن قوة تجلت بالأساس في سيطرته على البريد البحري في المتوسط، وقد كشفت دراسات أجراها الباحث هاني سلام اضطلاع البريد البحري المصري من سنة 1845، بمهمة إدارة وتوجيه بريد الدولة العثمانية بشكل كامل، ما جعله مطلعا ومسيطرا على عقل وأسرار الدولة العثمانية. وهو أمر استغله حاكم مصر لمعرفة حركة المعلومات بين أطراف الدولة العثمانية، ضمن رغبة في مناطحة دولة الخلافة واختراق دوائر صنع القرار لديها.
سلطت دراسات تاريخية حول البريد الضوء على ملفات مسكوت عنها، مبرزة تاريخا آخر غير مدون لدور مصر في إدارة البريد خلال عهد الدولة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وكشفت أن الصراع البحري المعلن بين تركيا من جهة وبلدان شرق المتوسط من جهة ثانية، في الوقت الحالي له امتدادات تاريخية تعود إلى القرن الثامن عشر، بعد قيام محمد علي بإنشاء أول أسطول مصري حديث وبناء ترسانة بحرية في الإسكندرية سنة 1931.
وبينت دراسات حديثة لنادي مونت كارلو للدراسات البريدية، وأصدرها في كتاب باللغتين الفرنسية والإنجليزية بعنوان “تاريخ البريد البحري في مصر 1845-1889” أن البحرية المصرية التي أنشأها محمد علي باشا، تحولت من العمل العسكري بعد معاهدة لندن سنة 1840 إلى السيطرة الكاملة على حركة البريد البحري لدول مصر وتركيا وفلسطين وسوريا ولبنان وقبرص واليونان. ومدّ نفوذها إلى البحر الأحمر لتهيمن على حركة البريد في المنطقة.
أعدّ الكشف الجديد الباحث التاريخي البلجيكي المصري الأصل، هاني سلام، والمتخصص في دراسات البريد، مُدعما دراساته بوثائق نادرة تنشر لأول مرة، واستغرق عدة سنوات في جمعها من كبرى قاعات المزادات في أوروبا.
لاقت كشوفات الكتاب اهتماما من قبل باحثي البريد خلال معرضهم الأخير في موناكو، حتى أن باتريك ماسيليس عمدة مدينة موناكو فيل، ورئيس نادي مونت كارلو للبريد كتب مقدمة للكتاب مقررا فيها أن الكتاب يمثل أول دراسة عن البريد البحري في المنطقة العربية، معتمدة اعتمادا رئيسيا على الوثائق النادرة جدا.
يفتح الكتاب الباب للدعوة إلى بحوث جديدة وتفصيلية في الدراسات البريدية في العالم العربي، لما تمثله تلك الدراسات من إثبات أو نفي مواقف أو شهادات محل خلاف.
الباحث هاني سلام، من مواليد سنة 1965، وهو نائب رئيس جمعية هواة البريد في مصر، وبدأ الهواية في سن السابعة وحصل على ميداليات ذهبية من معارض البريد الدولية، وهو محكم دولي معتمد في مسابقاتها.
التقت “العرب” الباحث التاريخي في القاهرة، وحكى تفاصيل اكتشافاته وآثارها على إعادة قراءة التاريخ خلال فترة أفول الخلافة العثمانية، مؤكدا أن علم الدراسات البريدية في العالم العربي ما زال مهمشا، رغم أهمية الدور الذي يلعبه في إعادة قراءة التاريخ.
سيطرة مبكرة
خلصت الدراسات الأخيرة إلى أن ما كان مذكورا في التاريخ بأن مصر تولت إدارة حركة بريد الدولة العثمانية عبر شركة البوستة الخديوية، بدءا من سبعينات القرن التاسع عشر ليس دقيقا، إذ كشفت الوثائق الجديدة أن السيطرة على بريد البحرين المتوسط والأحمر ترجع إلى أكثر من ثلاثة عقود قبل ذلك.
أوضحت الوثائق الجديدة التي قدمها هاني سلام اضطلاع كيان سابق أنشأه محمد علي باشا والي مصر خلال الفترة من 1805 إلى 1848 بمهمة إدارة وتوجيه بريد الدولة العثمانية بشكل كامل، من سنة 1845، وحمل هذا الكيان اسم الشركة المصرية التجارية، ما جعله مطلعا ومسيطرا على عقل وأسرار الدولة العثمانية، رغم هزيمته العسكرية سنة 1840 على يد العثمانيين وحلفائهم في أوروبا.
تنبع أهمية الدراسات البريدية من اعتمادها على وثائق فعلية، وليس آراء أو شهادات كتبها مؤرخون بحسن أو سوء نية، ما يؤكد أنها أكثر حجية من الآراء الشخصية، لذا فقد حمل الكتاب صورا عديدة لخطابات مرسلة من الإسكندرية إلى القسطنطينية عبر الشركة الملاحية المصرية، وتعود للفترة من 1845 إلى 1849.
وأشار الكشف الجديد إلى أن محمد علي استغل ترسانة البحرية المصرية بعد تحجيم دورها العسكري في السيطرة على حركة المعلومات بين أطراف الدولة العثمانية، ما يشير إلى أنه لم يكن مُسلما بنهاية طموحاته، بل كان راغبا في استمرار مناطحة دولة الخلافة واختراق دوائر صنع القرار لديها.
حقق جيش مصر في ذلك الوقت انتصارات متتالية على الجيوش العثمانية حتى وصلت قواته حدود تركيا نفسها، غير أن تحالف دول أوروبا مع دولة الخلافة العثمانية انتهى إلى إيقاف طموحاته التوسعية بمعاهدة لندن التي نصت على انسحابه من الشام ومنحه حكم مصر وأبناءه من بعده، كولاية تابعة للخلافة العثمانية.
ويمكن القول إن إحدى الدلالات الخطيرة في قصة السيطرة المصرية على البريد في ذلك الوقت، تكمن في أن الدولة العثمانية لم تكن لديها شركة تركية تمثل مركز الخلافة لنقل البريد بين أطراف الإمبراطورية، ما يعني تدهور البحرية العثمانية مقارنة بنظيرتها المصرية في ذلك الوقت.
وقال هاني سلام لـ”العرب”، إن الشركة المصرية للبريد البحري توقفت خلال عهد عباس الأول (1848-1854) ثم عاودت العمل مرة أخرى في عهد الوالي سعيد باشا (1854-1863) حيث تم شراء ثلاث سفن جديدة من أوروبا بمعاونة الفرنسي فرديناند ديلسبس، وعملت إحداها في قناة السويس في ما بعد.
في سنة 1859 خططت الدولة العثمانية لإنشاء شركة بريد بحري تنطلق من مدينة البصرة في العراق، كجزء من مشروع مستقبلي كبير لنقل البريد بحريا عبر بلاد الإمبراطورية، لكن المشروع مثل الكثير من المشروعات العثمانية المخطط لها في ذلك الوقت ظل مدونا على الورق دون أن يرى الواقع.
وأضافت الوثائق الجديدة، أن طوابع البريد المصري ظهرت على البريد البحري لأول مرة في يناير سنة 1866 والمفترض طبقا لدراسات الباحثين الأجانب في مجال البريد أن أقدم طابع بريد مصري يعود إلى أغسطس 1865.
مناطحة الدولة العثمانية
تُمضى الوثائق المُجمعة للبريد البحري لتشير إلى تحول اسم الشركة المصرية إلى الشركة المجيدية، نسبة إلى السلطان العثماني عبدالمجيد الأول، ثم العزيزية، نسبة إلى السلطان العثماني عبدالعزيز الأول، لتستقر في النهاية باسم البوستة الخديوية في عهد الخديوي إسماعيل (1863-1879)، ما يؤكد شعوره القوي بمنافسته لمركز الخلافة العثمانية في إسطنبول اعتمادا على علاقاته القوية بدول أوروبا.
كذلك كشفت الوثائق أن البوستة الخديوية كانت المسؤول الوحيد لنقل البريد بين تركيا وأوروبا، وبين تركيا وسوريا، وبين مصر وباقي أنحاء الدولة العثمانية من خلال 27 مركبا.فضلا عن افتتاح مكاتب للشركة المصرية في كافة أنحاء الإمبراطورية، مثل أثينا، بيروت، لاتاكيا، طرابلس (الشرق)، بورسعيد، جدة، مصوع، سواكن.
كانت خطابات البريد تحمل عبارة “نقل بالبواخر المصرية”، و”خالص الأجرة”، ما يعني أن الشركة كانت تحصّل رسوما على نقل البريد.
وذكر هاني سلام في حواره، أنه أمكن من خلال وثائق البريد المتاحة التعرف على محطات الخطوط الملاحية للشركة في النصف الثاني من القرن الـ19. كما أمكن التعرف على أزمنة السفر من محطة إلى أخرى، فضلا عن دلالة في غاية الأهمية تشير إلى أن مصر حققت أرباحا كبيرة جدا خلال فترة اندلاع الحرب الأهلية الأميركية بين 1861 إلى 1865، وهو ما تم بناء على نصائح من المستشارين الأجانب حول الخديوي إسماعيل، ما يؤكد أنهم لم يكونوا عنصر تآمر على مصر، مثلما ذكر البعض من المؤرخين المصريين.
تفيد الوثائق في التعرف على جنسيات طواقم السفن ومهماتهم، حيث اتضح أن معظم القباطنة في الغالب من الإيطاليين، بينما كان المهندسون من إنجلترا ومصر، وكان باقي أفراد الطاقم من عمال وفنيين وخفر ومساعدين مصريين.
محمد علي استغل ترسانة البحرية المصرية في السيطرة على حركة المعلومات بين أطراف الدولة العثمانية، ما يعكس رغبة لديه في مناطحة دولة الخلافة واختراق دوائر صنع القرار لديها
ولفت سلام، إلى أنه كان من المدهش أن الشركة الخديوية امتلكت أربعة خطوط ملاحية منتظمة لنقل البريد، وكان الخط الأول يمتد من الإسكندرية وحتى مرسينا بتركيا مرورا ببورسعيد، يافا، بيروت، طرابلس، ولاتكيا.
ويمتد الخط الثاني من الإسكندرية وحتى القسطنطينية مرورا برودس، والخط الثالث من الإسكندرية وحتى مدينة سالونيك، مرورا بكانديا وفولا في اليونان. أما الخط الرابع فكان يمتد بين القسطنطينية وسالونيك، لكنه كان خاضعا للشركة المصرية.
وساهم في قوة ورسوخ الدور الذي لعبته شركة البوستة الخديوية داخل تركيا نفسها أنها أنشأت مكاتب لها داخل الأراضي التركية، وأوكلت إلى شركات محلية في كل مكان من الإمبراطورية عدا شمال أفريقيا مهمة توصيل الخطابات إلى العناوين الداخلية المرسلة إليها، بعد تجميعها وتصنيفها في المكاتب الرئيسية للشركة في محطاتها البحرية.
كشفت حركة البريد البحري الخاص بالبوستة الخديوية حدود النفوذ المصري في منطقة البحر الأحمر، حيث أكدث خطابات مرسلة عبر الشركة قوة التواجد المصري في مُدن مثل مصوع بإريتريا، جدة بالحجاز، وكردفان في السودان، وبربرا في الصومال. وكان الخديوي إسماعيل قام باحتلال إريتريا والسيطرة على الساحل الغربي للبحر الأحمر من بولهر إلى بربرا سنة 1870.
ساهمت البوستة الخديوية في تعريف العالم بمصر مع وصول وانتشار رسوم ومعالم حضارية على طوابع البريد المرسلة إلى الكثير من المدن المتواجدة فيها مكاتب الشركة، ما أهل مصر في سنة 1874 إلى المشاركة في اجتماع تأسيس الاتحاد العام للبريد في مدينة برن، حيث تم الاتفاق على ضمان عائدات كل بلد تجمعها من البريد الدولي وتحدد أسعار ثابتة للتعاملات البريدية في جميع أنحاء العالم. واعترفت هذه الاتفاقية التي أُعيدت تسميتها في 1878 بالاتحاد الدولي للبريد بسيادة البوسطة المصرية.
رحلة بحث طويلة
في رأي هاني سلام، فإن دراسات البريد البحري منعدمة تماما في العالم العربي، وأن الدراسات البريدية نفسها نادرة ولا تلقى الاهتمام اللازم من قبل المؤسسات المعنية بالتاريخ رغم أهمية الدور الذي تلعبه.
واستغرق الباحث سنوات عديدة، ورحلة بحث طويلة، وجمعا للوثائق وأظرف الخطابات المرسلة عبر موانئ البحر المتوسط.
وقال لـ”العرب”، إن إسرائيل خطت خطوات جيدة في الدراسات البريدية لإثبات حقوق تاريخية غير حقيقية، مثل استغلال خطاب قديم مرسل من تاجر يهودي يعيش في فلسطين قبل تأسيس إسرائيل نفسها لتأكيد تواجد مواطنيها، بينما لم يعمل العرب على ذلك الأمر بشكل مواز لتأكيد حقوقهم.
وأوضح سلام، أنه كان من الغريب أن تبدأ الدراسات البريدية في مصر على أيدي الإنجليز، ولولا جهود الكولونيل بايم، لما نشأ علم الدراسات البريدية في مصر.
ويعتبر إبراهيم شفتر، أول مصري اهتم بعلم البريد وكتب كتبا ودراسات فيه خلال الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
وأضاف أن البريد يعيد كشف العلاقات بين الدول في أزمنة بعينها، ويكشف وقت نقل البريد من مكان إلى آخر في تحديد أزمنة السفر عبر الوسائل المختلفة، فضلا عن طبيعة الموانئ وحركة النقل والشحن. وتعزز سمات العلاقات التجارية بين الشعوب، فبعض التجار في أوروبا كانوا يرسلون خطابات إلى نظراء لهم يتعجلون فيها إرسال مستحقات بضائع بعثوا بها أو يعرضون بضائع أخرى.