واقع سياسي جديد في مصر

يمكن أن تفرز العواصف الاقتصادية التي تمر بها مصر واقعا سياسيا جديدا وخلاقا، فالأزمات الاجتماعية الناجمة عن تصرفات اقتصادية اتخذتها الحكومة لإحداث توازن في السوق ربما تدفع النظام الحاكم إلى إدخال تعديلات على التوجهات السياسية الداخلية وتقود إلى فتح المزيد من النوافذ والأبواب في الفضاء العام.
لن تتمكن أجهزة الدولة من حكومة ومؤسسات تشريعية وسياسية وأمنية مواجهة الواقع المعقد بمفردها، حيث تقع على عاتق الأحزاب وتنظيمات المجتمع المدني والمفكرين والمثقفين والإعلام مسؤولية مضاعفة، لأن الأزمة العامة ولو أخذت بعدا اقتصاديا أو اجتماعيا، فهي في النهاية في حاجة إلى معالجات حكيمة شاملة تمتص غضبا كامنا أو محتملا في مثل هذه الأجواء التي تمر بها العديد من الدول.
مصر بلد كبير لن يتحمل هزات جديدة، فقد نجحت أجهزة الدولة في التعامل مع العديد من الأزمات خلال العقد الماضي ووضعت قواعد مهمة للأمن والاستقرار والهدوء وهندسة الخارطة السياسية بطريقة تسهم في تخفيض مستوى التحديات الداخلية ولا تريد العودة إلى الحلقات الضيقة التي كانت فيها الدولة على وشك الانفجار.
تبدو الاختبارات التي مرت بها مصر في السنوات الماضية بعيدة عمّا يحدث الآن، إذ كان الخصوم محددين ومعروفين، ما ظهر منهم وما بطن، وهو ما جعل عملية التغلب على العراقيل التي وضعت عمدا ليست عصية لأن جزءا منها اختزل في الشق الأمني.
تختلف المعركة المصيرية اليوم عن سابقاتها، لأن لها شقين آخرين، الأول اقتصادي والثاني سياسي، ما يعني أن المواجهة أشد فتكا والعلاج يتطلب أنماطا متعددة كي تصبح نتيجته مضمونة، ومن دون وجود تكاتف بين الأجهزة الرسمية والشعبية والأطياف المتعددة فيهما سوف تكون عملية تخطي الصعاب مضنية.
تستطيع الحكومة المصرية رسم صورة سياسية جيدة تحت عينيها بدلا من أن يتمّ تشكيلها بعيدا عنها، ففي الحالة الأولى تملك مفاتيح الحل والعقد بينما في الثانية تكون المفاتيح في أيدي آخرين
تتطلب هذه الحالة أنماطا جديدة من التعامل، في مقدمتها العمل على خلق واقع سياسي يستطيع امتصاص الصدمات التي حدثت والمنتظر حدوثها في الفترة المقبلة، وتحتاج تضامنا عاما لأن التحركات القاسية التي تتبناها الحكومة على الصعيد الاقتصادي ما لم توجد استعدادات لتحملها وقدرة على تفهمها سيصبح عبورها محفوفا بالمخاطر.
وضع النظام المصري نواة لقاعدة سياسية ممثلة في الاعتماد على بعض الأحزاب القريبة منه وتشكيلاتها المتنوعة ولم تفلح في إقناع الناس كثيرا بأنها قادرة على نقل التصورات العامة للشارع وإن تظاهرت بالنجاح أحيانا وأقنعت الحكومة بجدوى تحركاتها، وعلى المستوى الشعبي لم تفلح في جني مكاسب حقيقية أو الحصول على مردودات مُرضية، لأن العلاقة بين الحكومة ونخبتها الخاصة قامت على المصالح، وبينهم وشريحة من المواطنين استفادت من هؤلاء قامت على ذلك أيضا.
كي يتمكن المصريون من تحمل التقشف وتجرع الدواء المر هم في حاجة إلى إعادة توجيه سياسي تقوم عليه جهات تؤمن بأن السفينة لا تهم فئة واحدة أو طبقة محدودة، فالكل في الهم سواء، فنجاتها تفرض مرونة عالية ورؤى جادة، وتحركات عاجلة تتمكن من تهيئة البيئة للتعامل مع متغيرات متسارعة، لأن تركها في أيدي هواة لن يدركوا أن جنوحا للسفينة قد يحدث في أيّ لحظة.
يصعب توقع نتائج التحولات العالمية، ويصعب أيضا التعرف على تفاصيل تأثيراتها على مصر أو غيرها، فهذه عملية تحتاج إلى ما هو أكثر من فرمانات وقرارات حكومية فوقية ترمي إلى تخفيف حدة الأزمة، فمشاركة النخبة العامة في تحمل المسؤولية يسهم في رفع جزء من الأعباء الملقاة على كاهل الحكومة حاليا.
يحاول البعض أن يقنع الحكومة أن القبضة الحديدية أفضل وسيلة للتعامل مع المواطنين في المحكات الصعبة، ويسعى آخرون لحثّها على رفع سلاح التخويف والمقارنات السيئة بمصائر شعوب تمردت على قياداتها، وفاتهما أن المصريين إذا تعرضوا إلى مبالغة في الضغوط العامة والخاصة يصعب توقع ردود أفعالهم.
دخلت المشكلات الاقتصادية منحنى خطيرا، وتحاول الحكومة اتخاذ الإجراءات اللازمة لتخفيف الأعباء ولا يترك الرئيس عبدالفتاح السيسي وسيلة إلا واستخدمها لزيادة برامج الحماية الاجتماعية لتحوي شريحة كبيرة من الناس الذين تأثروا كثيرا بقرارات زيادة سعر صرف العملات الأجنبية والارتفاع المفاجئ في أسعار السلع.
يصعب توقع نتائج التحولات العالمية، ويصعب أيضا التعرف على تفاصيل تأثيراتها على مصر أو غيرها، فهذه عملية تحتاج إلى ما هو أكثر من فرمانات وقرارات حكومية
يخفف هذا التوجه جانبا من المعاناة المباشرة إلى حين، غير أنه لا يضمن الاستمرارية، لأن الموارد المحدودة في يد الدولة ستقف عاجزة أمام الفوران الحاصل في الأسعار، واستخدام الصرامة في أوقات الشدة يجلب نتائج عكسية لا تتحملها الأوضاع الحالية بسبب تشابكاتها الداخلية والخارجية، والتي قد يحسب من يتربصون بالدولة أنها مناسبة لإحداث بلبلة في صفوف شريحة ليست هينة من المواطنين.
لا مفر من تقديم مقاربة سياسية رسمية، مباشرة أو غير مباشرة، تفتح كوة في الجدار العام وتسمح بمساحة من الحركة للأحزاب والمجتمع المدني والنخبة المستقلة التي لا تزال تحتفظ بمصداقية في الشارع المصري والبعد عن الهواجس القديمة حيالها، لأن المشهد في حاجة إلى تنفيس محسوب يحتوي البخار المكتوم، خاصة أن الأغلبية من المصريين استوعبت أهمية الحفاظ على الدولة وأمنها واستقرارها وغير مستعدة للتضحية بما تحقق من تطورات في هذا المسار على مدار السنوات الماضية.
تعكس الثقة في هذا الخيار نقطة جوهرية لأن صياغة واقع جديد تؤكد أن المصريين بلغوا حد الرشد السياسي، ولن يجدي نفعا التمسك بفكرة الوصاية في أحوال متذبذبة بالداخل وتطورات عالمية قاتمة في الخارج، ما لم يكن هناك رضاء عام أو على الأقل قبول بما تتخذه أجهزة الدولة من إجراءات تتطلب روافع مجتمعية تشاركها في الحد من الارتدادات السلبية التي تحدث في أيّ دولة تمرّ باختبارات قاسية.
تستطيع الحكومة المصرية رسم صورة سياسية جيدة تحت عينيها بدلا من أن يتمّ تشكيلها بعيدا عنها، ففي الحالة الأولى تملك مفاتيح الحل والعقد بينما في الثانية تكون المفاتيح في أيدي آخرين، وقد أثبتت التجربة وجود قدرة عالية لدى المصريين على تحمّل المحن ومواجهة الصعاب.
وهي زاوية مهمة يمكن النفاذ منها لقلوب المصريين وعقولهم، شريطة أن يشعر الناس بالمساواة والعدالة والشفافية والمصداقية، لأن الدولة ربما تضطر إلى تبني سياسات غير معتادة في توجهاتها الخارجية لأجل وقف تداعيات الأزمات الداخلية.
يبدأ تشكيل الواقع السياسي من تفعيل الهياكل الرسمية، حيث توجد بنية مؤسساتية تحتاج إلى أن تطلق الحكومة صافرة البداية كي يبدأ قادتها في ممارسة أدوارهم المنصوص عليها في الدستور، ومن هنا تتصاعد الثقة فيها وتُمنح قوى مهمشة جرأة تساعدها على الاقتناع بأن ثمة تغيرات تستحق التجاوب معها على أرضية وطنية.