واقع الحرية الدينية وانتشار السلفية والتشيّع

كونية حقوق الإنسان وعالميتها تنطلق من فلسفة التنوع والاختلاف في الأديان والمذاهب والطوائف بأمانة. فأن نتحدث عن الحرية الدينية بما في ذلك حرية ممارسة الطقوس واحترامها وحرية اعتناق الأديان، يعني أننا نسلم بديهيا بتنوع الأديان وتعددها، وقد تشكلت قوانين وأعراف ووثائق عالمية لتثمين هذا الاختلاف. أما الوجه النقيض لهذه الحرية الدينية هو تحويلها إلى فرصة لصياغة خطاب سياسي يقمع كل محاولة للتحرر ويساهم في رسم حدود وهمية بين المواطنين ويدفع بهم إلى الصراع في كل الحالات، وهو ما تقوم به منابر السلفية المتشددة وطائفية إيران الماكرة.
الجمعة 2015/12/11
ديمقراطية السيوف

تمثل الحرية الدينية واحدة من أوائل الحقوق التي تم الاعتراف بها بموجب المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ورغم تفاوت درجة تقبل هذه الحريات بين الدول العربية، إلا أن إقرارها في القوانين الدولية يدل على الاهتمام بالحريات التي تعرضت وتتعرض للضغط بين فترة وأخرى.

وشكل الانتماء الديني جزءا من بناء الدول العربية والإسلامية بوصفه قيمة لها أثرها على استقرار النسيج المجتمعي وعلى المشهد السياسي الاجتماعي. ومع انتشار الصراعات السياسية وصراعات المصالح التي تم زجّ الدين في أتونها، تحول الدين إلى مادة ومحور للجدل بين من يعتبر العالم الإسلامي في حالة صحوة دينية وبحث عن الهوية، ومن يعتبره يعيش مأساة العصور الوسطى الأوربية، لهذا لم يعد الحديث عن حرية المعتقد مجرد كلام لاهوتي أو فقهي بالمعنى الفردي.

ورغم حساسية هذا الطرح، إلا أن واقع الحرية الدينية وتنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع والدين صارا جزءا من توتر المجتمعات في العديد من الدول العربية، وترافق ذلك مع ظهور العديد من الحالات منها انتشار التدين الفردي حيث يصبح الفرد “المسلم” مرجعا لنفسه في الممارسة والتوجيه والسلوك ويستطيع أن ينشئ نموذجه التديني بمعزل عن القواعد والأعراف الدينية، ومن أبرز سماته تنامي الفتاوى وما يصاحبها من تداعيات، ومنها نمو التيار السلفي المدعوم بمنابر ومؤسسات تعمل على نشر أيديولوجيته، والذي يعرض نفسه على أنه التيار الديني الوحيد المتمسك بالكتاب والسنة، ما يجعله جذابا عند البسطاء.

وقد شكلت سوريا الحالة الأوسع من الاضطراب نتيجة انعدام الحريات العامة وحقوق المواطنين، وتم ترجمتها دينيا بتسلط أقلية دينية “علوية” على الأكثرية “السنية”. وهذه الترجمة كان لها أثر كبير في تغيير طبيعة الصراع والتعاطي مع الآخر المختلف، خصوصا بعد استيقاظ الإسلام السياسي واختطافه لزمام المبادرة السياسية، وتكاثر الجماعات المتطرفة الداعية إلى تحقير الحياة وتمجيد الموت والتي استقطبت العديد من الجماهير، إما عبر تقديم إغراءات مالية لجعلهم وقودا لمشاريعها الطائفية والعنصرية أو عبر إجبارهم على إشهار إسلامهم، والتي رافقت الجهاد المسلح وأنتجت أشد أنواع العنف والتجاوزات لحقوق الآخر من تكفير للأقليات ولأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى. وهذا يتنافى مع حرية المعتقد التي كفلها الدين الإسلامي وكان لها أثر كبير في احترام التعددية وحرية الاعتقاد دون إكراه ولا تضييق.

مع انتشار الصراعات السياسية وصراعات المصالح التي تم زج الدين في أتونها، تحول الدين إلى مادة للجدل

وأدت كارثية الصراع بشكله الديني والمذهبي إلى تقوقع الأقليات عند حدود طوائفها، أو تحول بعض أفراد هذه الطوائف نحو التشيّع والانتماء إلى أقلية أكبر حجما وأكثر قوة إقليميا، فقد سجلت حركة التشيّع انتشارا ملحوظا شمل غالبية المحافظات السورية، ولم تعد تقتصر على الأوساط التي لديها أصول شيعية تقليدية (كالإسماعيليين والعلويين)، وانتقلت من حالتها المذهبية التي لا تتنافى مع حقوق الإنسان في الحرية الدينية إلى حالة التشيّع السياسي، الذي تقوده منظومة واسعة من الدعاية السياسية والدينية في ترويج حماية الأفراد وتقديم المساعدات المالية والطبية المجانية والمنح الدراسية، فقد عملت إيران على استغلال حالة الفوضى والفقر المدقع والحرب لخلق وقائع جديدة تتماشى مع استراتيجية التمدد المتصلة بإرثها التاريخي القديم عن الإمبراطورية الفارسية، وبطبيعتها كدولة دينية تسعى إلى تصدير نظريتها الثورية.

إن انتشار السلفية والتشيّع يعتبر دليلا على أن المجتمعات العربية الإسلامية مازالت أسيرة لعقلية ضيّقة تسيّرها المصالح وتستخدم الدين كوسيلة لتحقيق المآرب السياسية، وأن إعادة التقييم لواقع الحريات الدينية والاعتراف بالتنوع والاختلاف اللذين سمحا عبر التاريخ بتأسيس قواعد وسلوكيات مشتركة اعتاد الناس على احترامها كجزء من النوايا الإلهية للخلق، هما بداية الطريق نحو احترام الإنسان وحقوقه الدينية التي تلغي حالة العنف، إذ لا سلام لشعوب منطقتنا إلا في الديمقراطية وإرادة العيش معا.

13