هنا العزلة.. هنا تنعدم الحياة

لا شك بأن لحظة النهاية لم تحن بعد، ولا شك أيضا أن الأرض بترابها وسمائها وكائناتها الحية والجامدة ما زالت قابلة لتنفس هواء آخر جديد بعيدا عن رياح الوباء التي عصفت وتريد أن تفتك بالعماد الأساسي للكون وعقله المدبر، إنه الإنسان أو خليفة الله وظلّه في الأرض.
لا شك أيضا أن هناك متّسعا آخر من الحياة وأن العالم سيتخطى أزمة كورونا كما تخطّى منذ القدم أبشع الحروب الدموية والوحشية التي جمعت في البدء البشر بالطبيعة أو تلك التي جمعت الإنسان بالإنسان تحت شعار غريزي واحد قوامه الحفاظ على البقاء، وكما تجاوز واستوعب أو هدم وأعاد البناء في حقبات كثيرة مرّ فيها بأصعب محن الطبيعة وأوبئتها القاتلة كالطاعون وغيره…
إلى أن تأتي تلك اللحظة المشتهاة، التي يتمنى كل امرئ أن يُسعفه حظ العمر ليقول فيها لقد عشنا في عام 2020 سنة قحط لخّصت كل أفلام هوليوود في فصل واحد عنوانه الحصار والعزلة المعطلان لرئتي الحياة وقلبها النابض، على الإنسان أن يعترف الآن وقبل الغد مطأطأ الرأس بالعجز عن إدارة الأزمة وعدم التهيؤ لمجابهتها علميا وطبيا وخاصة نفسيا بعدما خيّلت له كل أساطير العالم المعيش أن باستطاعته الآن لا فقط ترويض الأرض بل التحليق في رحاب أوسع لخوض حروب سريالية في كواكب أخرى غير كوكبه الأم.
لقد كسر فايروس كورونا المستجد نمطية سلوكات وقواعد عيش البشرية المعتادة وتمرّد على كل شيء ليجعله مؤجلا إلى أجل غير معلوم، فارضا على الإنسان ضوابط حرب جديدة حددّها لوحده دون أن يرسم بدايتها ولا نهايتها ولا كيفية هزمه والشفاء منه.
فرض العدو غير المرئي سلطته على الجميع غير عابئ بلغة القوي ولا بتودد الضعيف، لا بأذكار ودعوات المسلمين ولا بتراتيل اليهود والمسيحيين، فجعل كل شيء فيه بصيص أمل في الحياة مؤجلا ولم يترك سوى الخوف والموت يتربّعان على الأرض ويحاصرانها من كل زواياها شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
تمرّد الوباء وجاب البسيطة عرضا وطولا ناخرا جسد العالم ومنقلبا حتى على أبسط أدبياته ومغيرا بوصلته، فنقل حتى خطابات الحكومات المتصلّبة والجشعة من النقيض إلى النقيض، ليبدل نهجها من رفع شعار “لا تؤجّل عمل اليوم إلى الغد” إلى التوسّل إلى مواطنيها بتأجيل كل شيء وتركه جانبا إلى حين أن يغفو ربما الفايروس أو ينام ومن ثمة يذهب إلى حال سبيله بعدما حصد الأرواح بلا تفريق وبلا تمييز.
كل ركن في العالم بات في زمن الوباء أشبه بمدينة أشباح أو قرية مهجورة، إنها العزلة المفروضة على البشر من عدو لا يؤمن بفصول القانون الدولي ولا بمواثيق الأمم المتحدة وحقوق الإنسان الكونية ولا بشعار “أميركا أولا” ولا بمنامة أردوغان الحالم بزعامة العالم الإسلامي ولا بثأر القيصر بوتين من قوى الغرب ولا بتدرّج الصين الناعم لخلط الأوراق من جديد لفرض سياسة الأمر الواقع قصد تغيير قواعد لعبة قيادة العالم مستقبلا.
الوباء عدو البشرية هذا، عطّل كل محركاتها، لقد أجل ضرورة الإنتاج ووضع عصاه الغليظة في عجلة وسائله وفي عجلة الاقتصاد برمته، كما طعن بسكينه خاصرة الدنيا، لقد أجّل العمل، أجل الحب، أجل العناق، أجل كل المواعيد دون أن يعطي الرزنامة الجديدة التي يريد أن يفرضها.
يتسلّى الناس الآن بعزلتهم عن العالم الخارجي ويستمتعون بأوقات خلوتهم القسرية، ليرفع كل واحد منهم شعارات مهدّئة عنوانها “ما أجمل العزلة، ما أروع الحجر الصحي إنه يتيح للإنسان إعادة اكتشاف نفسه واكتشاف أسرته ومحيطه عن قرب بعدما أخذته مشاغل الحياة والعمل والالتزامات المهنية المضبوطة بمواقيت محددة”.
يطمئن، شق آخر نفسيته ويعدّل مزاجه وينجح مؤقتا في ترويض هيجانه، كابتا كل ما في جسده من رغبات بالتوجه إلى بدائل أخرى ليل نهار، كالإبحار في عالم الإنترنت بما يحتويه من محامل تواصل اجتماعي توفر له بمجرد نقرة بسيطة التحادث مع من يريد في أي وقت يريد أو يبحث في محركات البحث عما يريد أن ينهل من الدراسات والبحوث أو الكتب ليحمّلها ثم يقول “إنها نعمة، إنها فرصة سانحة لتثقيف الذات وتغذيتها بالعلم والمعرفة”.
وكما يُطرح السؤال راهنا عن مدى صمود الجيش الأبيض الطبي في مقاومة الوباء إلى حين التمكن من كبح جماحه باكتشاف مضادات له، يُطرح أيضا السؤال الأهم إلى متى سيقاوم الإنسان هذه العزلة؟ العزلة التي جعلت من عالمه أشبه بسجن من فئة خمس نجوم لكن ليس بإمكانه أن يغادره متى يشاء، فإن تمت مغادرته سيكون ثمن الفاتورة غاليا، فإمّا الموت وإمّا دفع الغرامات المالية وقضاء عقوبات السجن التي تفرضها الحكومات على كل من يخالف تراتيب الحجر.
كيف سيواصل الناس المقاومة وهم يدركون حقيقة أن الخوف مستمر وأن الوباء سيعاشر أكثر ما يمكن من الوقت الأرض إلى حين وجود علاج للشفاء منه بعدما غرس أنيابه في كل مكان دون مهابة من تاريخية الإنسان ولا حضارته ولا ما قدّمه من منجزات فريدة للكون.
إلى متى سيصبر الموظفون مهما كان تقاعسهم أو عدم انضباطهم على حتمية “العمل عن بعد” وهم الذين تعوّدوا على سلوكيات يومية فرضها واقع كان يقال عنه إنه روتيني يبدأ من إلقاء التحية لحارس مقر العمل مرورا إلى احتساء القهوة مع المقربين من الزملاء والأصدقاء وصولا إلى أدق التفاصيل المهنية بمتعتها أو بتشنجاتها المعتادة؟
يعتقد الناس الآن وهم في ذروة تفشي كورونا أن كسر الحصار محسوم وأن اللجوء إلى بدائل الموسيقى أو الرقص أو الرسم والمطالعة والتفرغ للكتابة، وإن كانت حلولا مؤقتة، قادر على تعويض مغامرات العالم الأرحب والأوسع وأنه العلاج الأمثل لتحدي الخوف المحفوف بشبح الموت.
يقول جلال الدين الرومي “أطلق عنان نفسك كي تنجرف صوب من تحب”، لكن في حضرة كورونا ما عسى الإنسان أن يفعل سوى أن يتفادى مُكرها حضن أمه أو تقبيل يديها، ما باليد حيلة سوى أن يؤجل أيضا معانقة من يحب أو أن يلغي صلاة الجماعة أو أن يهمل موعدا ضربه مع صديقه المفضل في حانتهما المعتادة لاحتساء ما تيسّر من النبيذ للنقاش في حدث ما أو الجدال في فكرة ما لشفاء الروح من تعبها.
في عزلة الوباء، صار كل شيء روتينيا وأكثر رتابة ومللا من نسق الحياة العادية التي أجبرت من هم في الحجر الصحي حتى على العودة إلى الحياة البدائية في أدق تفاصيلها وجزئياتها عبر التعامل مثلا بملصقات وتشفيرات ورموز عليها أسهم وعلامات تُلصق على جدران أو أبواب المنازل ومداخلها، لتُملي على كل واحد ماذا يجب عليه أن يفعل قبل أن يدخل بيته وماذا وجب عليه أن يستعمل من معقمات طبية ومضادات تلافيا للإصابة بكورونا أو خوفا من نقلها إلى الآخرين.
في زمن كورونا، لا معنى لحياة تربط الفرد بمجتمعه أو بمحيطه الأسري من بوابة افتراضية قوامها وسوم وترميزات ذكية مصطنعة يعتمدها فيسبوك أو إنستغرام أو واتساب إلخ.. لا تزال اليوم ولن تكون قادرة غدا على التعبير ولا على أن تكون بديلا لوسائط العالم الكلاسيكية المثلى كاللغة وعمق دلالاتها أو مختلف الحركات والإشارات التي ابتدعها العقل البشري للتواصل مع الآخر ولإبلاغ مشاعر السلام أو المحبة.
ليس هذا الصراع الأول الذي يخوضه الإنسان مع وباء، كما أنها ليست الحرب الأولى في التاريخ، لكن الفرق بين الحروب السابقة وبين مصارعة كورونا أن الأخيرة تضع الجميع تحت مقصلة واحدة لا تفرق بين عدو وحليف كما كان الأمر في الحربين العالميتين الأولى والثانية. كوفيد – 19 لا يعترف ولا يفرق بين “حلفاء” و”محور” ولا بين شيوعي ورأسمالي ولا بين شرق وغرب، إنه غول داهم يريد إنهاء تاريخ ما وفتح صفحة جديدة يخطّها بحصد أرواح الأيديولوجيات وبناء نظام آخر لا يدرك أحدا إلى الآن شكله أو مرتكزاته وأدبياته.
“هنا كورونا، هنا تنعدم الحياة”، هذا عنوان درس جديد على الإنسانية الاستخلاص من عبرته وحفظ رسائله عن ظهر قلب كونه أزال المساحيق وعرّى وجه البشرية، كاشفا عن حجمها الحقيقي وعن عجز الإنسان بكل طروحاته وبعولمته وتقدميته فكريا وعلميا وبأنظمته وتنوع أيديولوجياتها عن تجاوز الحرب الأولى، حرب البقاء، حرب الصراع مع الطبيعة.
كوفيد – 19 كارثة صحية غالية الثمن لكنها أزمة عابرة أرادت من خلالها الطبيعة معاتبة الإنسان ومعاقبة كبريائه وإعادته إلى حجمه الطبيعي عساه يعيد ترتيب أولوياته ليكون الهاجس الأهم في المستقبل القريب متمحورا حول قضايا الطبيعة والمناخ، كأن يضع في مخططاته أن تكون وزارات الصحة والبيئة والمناخ حقائب سيادية في المقام الأول لأن المعركة القادمة ستكسر نمطية كل ما سبق من حروب كلاسيكية.