هل يمكن الحديث عن ديمقراطية دون أحزاب

نظرة قيس سعيد للأحزاب السياسية لا تختلف عن نظرة أي زعيم ثوري يعتبر ما سبقه غير صالح للاستمرار.
الثلاثاء 2022/12/20
ديمقراطية تونسية مسنة في عز شبابها

يحتاج الرئيس التونسي قيس سعيد إلى حاضنة حزبية تساعده في التأسيس لمساره الخاص نحو الإصلاح في تونس. فإخفاقات النخب السياسية لا تعني الاستغناء عنها أو عمّا تمثله من أحزاب.

تونس - أكدت نسبة المشاركة في الانتخابات البرلمانية التونسية التي انتظمت في السابع عشر من ديسمبر الجاري حقيقة مهمة لا تزال تجد اهتماما واسعا لدى الساسة والباحثين في أغلب دول العالم، مفادها أن الانتقادات الواسعة التي تتعرض لها الأحزاب السياسية التقليدية، وتراجع أداء النخب الحزبية في المجتمعات الديمقراطية، وسخط الجماهير على تلك الأحزاب والذي يصل إلى حد المقاطعة، لا تعني أنه بالإمكان الحديث عن نظام ديمقراطي من دون أحزاب. فأن يكون رئيس الدولة من دون غطاء أو سند حزبي عبر الانتماء المباشر، فإن ذلك يفقده القدرة على التعبئة الشعبية والتجييش الجماهيري، والترويج لأفكاره ومشروعه في الطبقات المتوسطة والدنيا التي عادة ما تكون الأكثر إقبالا على صناديق الاقتراع. كما أن اعتماد القائمات الفردية وحدها، وعدم التنصيص على الانتماء الحزبي للمرشحين، سيجعل الانتخابات اهتماما شخصيا وحدثا فرديا أو أسريا في أقصى الحالات بدل أن يكون حراكا اجتماعيا واسعا، لينتج عن ذلك برلمان وظيفي على الصعيد المحلي لكل عضو من أعضائه دون أفق سياسي فاعل على المستوى الوطني العام.

علاقة الأحزاب بالديمقراطية تشكل أحد أهم محاور السجال السياسي في العالم حاليا. ولم يعد خافيا أن الكيانات الحزبية كثيرا ما باتت تتعرض لخطابات مهينة وإلى تشكيك في جدواها. لكن “حتى اليوم لا يمكن تصور ديمقراطية بدون أحزاب سياسية”، كما يرى رئيس المعهد الوطني للانتخابات في المكسيك لورنزو كوردوفا فيانيلو، مشددا على أنه “لا توجد تجربة ديمقراطية واحدة في تاريخ العالم حيث لم تلعب الأحزاب دورًا حاسما”.

وبحسب فيانيلو، فإن “هناك من يقترح مرارا وتكرارا اختفاء التمويل العام وإلغاء مقاعد التمثيل النسبي أو أولئك الذين حاولوا في الآونة الأخيرة حصر أنشطة الأحزاب في المهام الانتخابية فقط. المنافسة، وكأن مشاركة المواطنين في الديمقراطية يمكن أن تقتصر على الدورات والفترات الانتخابية فقط”.

الأحزاب وجه الديمقراطية

الجدل بشأن علاقة الأحزاب بالديمقراطية يشكل أحد أهم محاور السجال السياسي في العالم حاليا

ووفق التعريف السائد، فإن الأحزاب السياسية هي منظمات تم إنشاؤها على وجه التحديد للتعبير عن الإجماع وتسهيل مشاركة المجتمع في صنع القرار السياسي وتوجيه الطابع التمثيلي للديمقراطية، وعليها تتأسس جهات القانون والمنظمات التي تعبر عن الحقوق الفردية من خلال توافق الآراء، بقدر ما لا يمكن تشكيلها إلا نتيجة التعاطف والتوافق السياسي والبرنامجي لمجموعة من المواطنين، على أساس ممارسة حقهم الدستوري في التنظيم والمشاركة في السياسة ودمج الهيئات التمثيلية للدولة في نهاية المطاف من خلال المشاركة في الانتخابات.

ويلخص عالم السياسة الإيطالي المرموق دانييلي كاراماني بشكل جيد للغاية وظائف الأحزاب في الديمقراطية: “يعتمد عمل الديمقراطية على الأحزاب والوظائف التي تؤديها، وأهمها هيكلة التصويت. تقدم الأحزاب بدائل سياسية ينتخبها المواطنون ويفوضون الممثلين، الذين يكونون مسؤولين أمام الناخبين. وبالتالي، فإن الديمقراطية التمثيلية هي أولاً أحزاب في الحكومة (حكومة حزبية)، حيث تمثل الأحزاب – أي أنها تستجيب لتفضيلات الشعب – وتحكم”.

يدافع المحسوبون على مشروع الرئيس سعيد عن مبدأ الديمقراطية المباشرة التي تسمى لدى البعض بالديمقراطية النقية، والتي يتم تطبيقها مباشرة من قبل الشعب من دون وسطاء، وبالتالي من دون أحزاب، كما كان في اليونان القديمة التي كانت تمنح للمواطنين القادرين على التصويت بأنفسهم على القوانين والقرارات الحاسمة بدلا من انتخاب ممثلين عنهم، وتمنع التصويت عن النساء والعبيد وغير الأثينيين، وهو ما جعل منها ديمقراطية قاصرا. وفي الزمن الحالي يتم تطبيق الديمقراطية المباشرة، كما تأسست في اليونانية القديمة، من خلال المجالس الشعبية في كانتونين سويسريين فقط، أبنزيل إنر رودس وجلاروس، حيث لا تزال المؤسسة السياسية الأعلى تتمثل في اجتماع الناس في الساحة العامة بالمدينة أو في مرج مرة واحدة في السنة، وهناك يوافقون على القوانين والميزانية وكذلك الإصلاحات الدستورية. وكان قد تم إلغاء هذه التجمعات من بقية الكانتونات السويسرية لأسباب عملية، حيث من غير المجدي جمع الآلاف في اجتماع مباشر لاتخاذ قرارات حاسمة.

وكانت إدارة جورج واشنطن خلال القرن الثامن عشر والجلسات الأولى لكونغرس الولايات المتحدة غير حزبية خلال الفترة 1867 – 1876. وفي ظل رئاسة بينيتو خواريز وسيباستيان ليردو دي تيخادا، تم إنشاء نظام سياسي ديمقراطي في المكسيك حيث لم تكن هناك أحزاب سوى الفصائل داخل المجموعة الليبرالية، ولكن كان هناك تقسيم حقيقي للسلطات، وسعي لاحترام القانون، والسيادة الكاملة للولايات، بقضاة مستقلين وحرية الرأي.

لا ديمقراطية من دون أحزاب

ونظرا إلى أن الديمقراطية من دون أحزاب لا يمكن تصورها، على حد تعبير عالم الاجتماع ماكس فيبر، فإن الدساتير التي تمت صياغتها بعد الحرب العالمية الثانية اعترفت بالدور الأساسي للأحزاب في الديمقراطية التمثيلية، ودسترة وظائفها، ومن ذلك مثلا أن القانون الأساسي الألماني لعام 1949 نص في مادته الـ21 على أن “تشارك الأحزاب في تكوين الإرادة السياسية للشعب. يجب أن يستجيب تنظيمها الداخلي للمبادئ الديمقراطية”. وجاء في الفصل الأول من الدستور الإسباني لعام 1978، المادة 6، أن “الأحزاب السياسية تعبر عن التعددية السياسية، وتساهم في تكوين الإرادة الشعبية وإظهارها، وهي أداة أساسية للمشاركة السياسية. ويتم إنشاؤها وممارسة نشاطها بحرية في ظل احترام الدستور والقانون. يجب أن يكون هيكلها الداخلي وعملها ديمقراطيين”.

ومع بداية التسعينات بدأت بعض المجتمعات تنزع نحو ترذيل دور الأحزاب التقليدية التي لم تعد قادرة على أداء مهامها وتمثيل الشعوب في مراكز القرار، على سبيل المثال، يقول الباحث الأكاديمي الكولومبي بيدرو ميديلين إنه كان في بلاده في عام 1991 تيار من الرأي العام قد احتفل بنهاية الأحزاب التقليدية كشيء إيجابي للديمقراطية، إذ أن “دستور عام 1991 هو شهادة وفاة للأحزاب السياسية، وهو الشكل المؤسسي الذي دفنت الأحزاب من خلاله كأشكال للوساطة السياسية”. ربما يتعلق جزء من المشكلة بفهم الديمقراطية التشاركية على عكس الديمقراطية التمثيلية أو كبديل لها في أفضل الأحوال عندما تكون مكملة في الواقع.

لم تستسلم الأحزاب الكولومبية لإعلان وفاتها، وإنما قاومت بقوة لإنعاش دورها واستعادة وظائفها داخل الإطار الديمقراطي لتستعيد موقعها من خلال العديد من المسارات المهمة كمسار الإصلاح السياسي لعام 2003. وبالمقابل، ظهرت بدول أخرى في أميركا اللاتينية وغيرها تساؤلات حول جدوى الاعتراف بدور أحزاب ضعيفة أو فاسدة، وهي كيانات غالبا ما تكون دون عمق شعبي واجتماعي كما هو الحال في أغلب الدول العربية ومنها تونس ومصر وليبيا والأردن. لكن سيكون من الواضح للجميع أن ضعف أو قوة الأحزاب لا يعنيان شيئا في تفسير أساس النظام الديمقراطي الليبيرالي وهو أنه لا يستقيم دون أحزاب، إذ لا ديمقراطية بلا أحزاب، وأي نظام من دون أحزاب يمكن أن يكون أي شيء ما عدا أن يكون ديمقراطيا.

نموذج تونسي يحاكي القذافي

Thumbnail

يرجح البعض أن الرئيس التونسي ينحو في اتجاه الديمقراطية المباشرة التي كانت معتمدة في ليبيا في عهد الزعيم الراحل معمر القذافي، وهي تلك التي تعتبر أن “من تحزّب خان” وأن “لا ديمقراطية دون مؤتمرات شعبية واللجان في كل مكان”. ولكن الوضع في ليبيا كان مختلفا، وقرار حظر النشاط الحزبي سبق القذافي وكان قد صدر منذ العام 1952 أي بعد عام واحد من قيام الدولة الوطنية في صورتها الملكية الدستورية، وكانت له دوافع من أهمها الخوف من أثر صراع الأحزاب على السلطة على السلم الأهلي في مجتمع الدولة الوليدة وهو صراع قد يرتبط بخلفيات جهوية ومناطقية وقبلية وعرقية وغيرها، لاسيما أن الدولة لم تتوحد عبر التاريخ في كيان واحد إلا بقرار الأمم المتحدة بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.

وإلى اليوم، لا يزال دور الأحزاب السياسية في ليبيا هامشيا حيث لا صدى لها في البلد الذي لا يختلف في بيئته الاجتماعية والثقافية عن المجتمعات الخليجية ذات الأنظمة الوراثية المعتمدة على العلاقة المفتوحة وفق الأعراف القبلية بين الحاكم والمحكوم، وهو ما جعل أصواتا عدة ترتفع بالدعوة إلى استعادة العمل بالنظام الملكي الدستوري، فيما يمكن القول إن القذافي نفسه كان يتعامل مع الدولة والمجتمع من منطلق شيخ القبيلة بخيمته المفتوحة للقادة القبليين في بلاده الذين لا يزال دورهم أهم من دور زعماء الأحزاب، ولا يمكن حل أزمات البلاد دون العودة إليهم في سياق مصالحة شاملة.

علاقة الأحزاب بالديمقراطية تشكل أحد أهم محاور السجال السياسي في العالم حاليا. ولم يعد خافيا أن الكيانات الحزبية كثيرا ما باتت تتعرض لخطابات مهينة وإلى تشكيك في جدواها

رغم أنه وصل إلى الحكم عبر انتخابات ديمقراطية شفافة ووفق مسار دستوري واضح، لا تكاد نظرة قيس سعيد للأحزاب السياسية تختلف عن نظرة أي زعيم ثوري يعتبر ما سبقه غير صالح للاستمرار، وقد سعى لتهميش دورها بشكل غير مباشر، وعمل على تشتيت صفوفها عبر التشكيك في جدواها مستقبلا، كما لم يتطرق إلى دورها في الدستور الجديد، وقرر اعتماد القائمات الفردية في انتخاب البرلمان، وذلك بهدف تشكيل نخبة سياسية جديدة بإشعاع محلي لتمثيل دوائرها في مجلس نيابي لن يكون له أي دور سياسي، ولن تكون به كتل حزبية، ولا تأثيرات حزبية في سياسات الحكم والحكومات، وهو ما جعل أغلب الأحزاب الأساسية بمختلف مرجعياتها العقائدية والسياسية تقرر مقاطعة الانتخابات، وتستفيد من سياقات الأزمة المالية والاقتصادية، ومن لامبالاة الشعب بما يدور في مستويات السلطة بمختلف درجاتها، في عزل فكرة تشكيل ملامح نظام الحكم بالشكل الذي يريده الرئيس.

مهما كانت الانتقادات الموجهة إلى الأحزاب السياسية إلا أن “خوض مباريات سيئة أفضل بكثير من عدم وجود مباريات”، وفق ما تراه أستاذة العلوم السياسية المكسيكية جوي لوجنستون التي تقول: “لسوء الحظ، لا يمكن أن يكون لديك ديمقراطية صحية وقوية بدون أحزاب سياسية. قد تكون هناك أنواع مختلفة من الأنظمة الحزبية والقواعد الانتخابية، لكن بدون الأحزاب سيكون لدينا وضع مثل الذي شهدناه في الإكوادور وبيرو وبوليفيا، أو حتى أسوأ من ذلك الذي شهدته فنزويلا في التسعينات. هناك الكثير من الانتقادات للأحزاب السياسية المكسيكية، لكن الحقيقة هي أنه بدونها سنكون أسوأ حالا”. وتضيف: “بدون أحزاب لا توجد ديمقراطية لسببين. في المقام الأول، لأن الأحزاب تسميات وتساعد الناخبين على اتخاذ قرارات أفضل لأنهم يتماثلون مع مقترحاتهم. إذا لم تكن الأحزاب موجودة، لكان لدينا مجموعات من الناخبين يبحثون عمّن يقدم لهم المزيد. والسبب الثاني هو أنه في ديمقراطية جديدة، مثل الديمقراطية في المكسيك، تساعد الأحزاب السياسية في تشكيل أغلبية في الهيئة التشريعية. لنفترض أنه من الصحيح أنه للموافقة على إصلاح الطاقة وافق المشرعون الذين وقعوا على ميثاق المكسيك على المال. بدون أحزاب سيكون الأمر على هذا النحو في جميع المبادرات، وليس فقط في تلك المهمة للرئيس بدوره. هذه ليست طريقة فعالة للغاية لإدارة بلد”.

6