هل يأفل الشعراء؟

من أين استمد شاعر مثل مظفر النواب كل ذلك الوهج لتكون قصائده كالمنشور على ألسنة الناس، يرددونها مثلما يحتسون قهوتهم، ذلك الإحساس المرهف، والمفردات التي لا يعرفها كثيرا حتى أبناء مدن الجنوب أنفسهم وهو البغدادي المترف والمنفي إلى أقصى الأهوار يساريا يلج حياة المزارعين والصيادين البسطاء ليدوّن رحلتهم ونضالاتهم مع الأقطاع و”السراكيل” ويرسم بقصائده صور معاناة خبيئة في أقصى العالم القديم، ليحكي عن غيلان وصويحب وكحل النساء الذي يختلط بالدم، ورحلة وجودهم وكراماتهم.
وكيف تمرس شاعر مثل الجواهري على لعن السلطات التي مرّ بها ويرحل بعيدا ليموت وعينه على أرض السواد التي مات أغلب شعرائها متمنين أن يدفنوا في أديمها عبثا، كما عاش سريعا أبوالقاسم الشابي الذي خلّد حياته بقصائد تحاكي الثائرين وتلهب حماس الشعب الذي يقترن وجوده لديه بالإرادة التي يستجيب لها القدر، لكنه لم ير الثوار الذين بشر بهم، والفيتوري الذي ضاع وسط زحام حكايات الثوار والبحث عن دروب الحرية، وآماله العريضة التي تسير ملتوية كالنيل لتشق طريقا طويلا من بلاده حتى البحر، وانتهى دون ضجيج.
ولم يجد أحمد فؤاد نجم راحة، وهو المترع بالمحبة على أرض كانت ساحة لصراعات الفراعنة والقياصرة وأحلام بونابرت ومحمد علي باشا وهو يخاطب بهية، لتكون مصر أما تفقد أبناءها على مرّ الدهور لتشكل لوعة الشاعر، وكذا السياب الذي ظل غريبا على الخليج يلهج باسم العراق الذي لا يرى فيه غير الجوع والطواحين التي تسحق الشوان والحجر لتموت أحلام بنات الجلبي حبيسة الشانيل في بصرته العتيقة حتى آخر فارس هوى ليدفن بعيدا عن دجلته، عبدالرزاق عبدالواحد الذي ظل يحلم بأن يدفن جوار بيته في بغداد، ويعّمد في المندي الصابئي ليوارى لكن الأقدار بددت أحلامه ليودع في مقبرة الغرباء قرب باريس، وعينه شاخصة كعين المتنبي مُلهمه الأثير، حين قتل قرب دير العاقول بعيدا عن كوفته موطن أهله.
لعل أزمان الشعراء الذين تغنى بهم الناس ورددوا قصائدهم وأنشدوا وغنوا لهم آفلة، فلن تحميهم من أقدارهم، ولم ترسم لهم نهايات كانوا يتمنونها، فظلت عيونهم تحلم بأن ترى آخر عوالم صباهم، وتبدد الريح ذكرهم وتأفل صورهم.
لقد أدرك مالك ابن الريب كل ذلك بأن القصائد لا تشفع للشعراء عند رحيلهم فقال:
يقولون: لا تُبْعِدْ وهم يَدْفِنونني
وأينَ مكانُ البُعدِ إلا مَكانيا
غداةَ غد يا لهْفَ نفسي على غد
إذا أدْلجُوا عنّي وأصبحتُ ثاويا.
أصعب أمر على الأمم أن يُدفن مبدعوها وشعراؤها خارج أوطانهم ولا تمنحهم الحياة سانحة الوفاء بتشييعهم حتى.