هل ستفشل الجزائر في استغلال فرصة الغاز المتاحة أمامها؟

تتوجّه أنظار إيطاليا وأوروبا إلى الجزائر لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي، لكن افتقار الدولة الواقعة في شمال أفريقيا إلى التفكير الاقتصادي الاستراتيجي وتواصل التلاعب بالقواعد في قطاع الطاقة عزز التصور بأنها شريك لا يمكن الاعتماد عليه.
تعد الجزائر ثالث أكبر مصدّر للغاز الطبيعي إلى أوروبا، حيث توفّر 8 في المئة من حصة السوق، وتربطها خطوط أنابيب مباشرة بإيطاليا وشبه الجزيرة الأيبيرية. كما أنها تزوّد فرنسا وبلجيكا والمملكة المتحدة واليونان وتركيا بالغاز الطبيعي المسال. واحترمت عقودها منذ أن بدأت في تصدير الغاز في 1964.
وبينما تعمل إيطاليا على تقليل اعتمادها على روسيا، فهي تتطلع إلى الجزائر، ثاني أكبر مصدّر للغاز، والتي وافقت على زيادة شحناتها بهدف للوصول إلى 30 مليار متر مكعب سنويا بحلول سنة 2024 بدلا من المستوى الحالي البالغ 21 مليار متر مكعب سنويا.
الجزائر لا يمكنها إلا أن تلوم نفسها إذا فشلت في مواجهة التحدي التاريخي وفوّتت فرصة فريدة لتعزيز تعاونها في مجال الطاقة والصناعة مع أوروبا
وسيعتمد نجاح الجزائر في اغتنام هذه الفرصة السانحة على قدرة حكام البلاد على بناء استراتيجية طويلة الأجل. ولن يحدث ذلك إلا حين يعيدون كتابة قواعد الاقتصاد الموجّه التي سادت منذ الاستقلال قبل 60 سنة.
وحاول الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، وفشل، في إخراج الجزائر من حفرة الاستبداد من خلال فرض إصلاحات اقتصادية وسياسية في 1988، لكن أقرانه العسكريين وضعوا حدّا لها، مستغلين ظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ لتخويف الطبقات الوسطى لدعم سياسة قمعية أثارت حربا أهلية أودت بحياة أكثر من 100 ألف شخص. واعتمد حكام عرب آخرون استراتيجيات كان لها عواقب وخيمة مماثلة.
ويبقى الأسلوب الجوراسي في إدارة الجزائر الاقتصادية ضحية لعنة النفط. حيث لا يمكن أن يوفّر قاعدة صلبة للاستقرار المحلي والنمو الاقتصادي الأسرع. وستفشل أي محاولة لتحرير الاقتصاد طالما يرفض الجيش السماح للطبقات الوسطى بالمشاركة في النقاش حول مستقبل البلاد وتطوير قطاع خاص نشط. وسيكون تأثير الإصلاح في قطاع الطاقة محدودا في غياب إعادة تنظيم أساسية لهيكل السلطة في الجزائر.
واستقر الوضع لعقود على داعم ثلاثي يقتصر على الجيش وقوات الأمن وكبار البيروقراطيين، بما في ذلك شركة النفط والغاز الحكومية (سوناطراك). وأدى سوء الحكم في عهد عبدالعزيز بوتفليقة، الذي كان رئيسا من 1999 إلى 2019، إلى تقويض البيروقراطية وتعزيز رأسمالية المحاباة. وسبّب ذلك هروبا هائلا لرؤوس الأموال. وأثار تصميم بوتفليقة على السعي لولاية خامسة في 2019 على الرغم من مرضه الشديد مظاهرات حاشدة. وواجهت هذه الاحتجاجات السلمية المعروفة باسم الحراك قمعا بمزيج من القمع القاسي وتبعات وباء كوفيد الذي أعطى السلطة العليا للجيش.
وكانت استراتيجية الطاقة طويلة الأمد مفقودة منذ إقالة وزير الطاقة القوي شكيب خليل سنة 2010. وقد فشل الوزير الذي كان قريبا جدا من ديك تشيني، نائب رئيس الولايات المتحدة آنذاك ومؤسس شركة هاليبرتون، في تحرير قطاع الطاقة لأن سياسته واجهت معارضة من قبل عدة أطراف.
وزعم هؤلاء المعارضون أن بوتفليقة كان “يبيع فضة العائلة للمصالح الأميركية”. والتصقت مزاعم الفساد بخليل وكبار المسؤولين التنفيذيين في شركة سوناطراك منذ ذلك الحين. وقُوّضت سمعتها التي كانت تفتخر بها ذات يوم.
وأدى أكثر من عقد من سياسة الكراسي الموسيقية في قطاع يوفر 97 في المئة من الدخل الأجنبي للجزائر وثلثي إيرادات ميزانيتها إلى إضعاف شركة كانت مزدهرة ذات يوم، حيث سئم الشركاء الأجانب من الشروط المالية المتغيرة باستمرار وبطء اتخاذ القرار.
وتراجعت حصة سوناطراك في مصانع إعادة تحويل الغاز في الخارج وتدهورت الأدوات الأخرى التي عززت قدرتها على تسويق غازها دوليا، مما حرمها من بعض فوائد الأسعار المرتفعة اليوم.
وأجّل وباء كوفيد – 19 استجابة الشركات الدولية لقانون تحرير الاستثمار الأجنبي الجديد سُنّ في ديسمبر 2019. ووقّعت الوكالة الوطنية الإيطالية للمحروقات “إيني” اتفاقية تعاون جديدة مع سوناطراك في نوفمبر 2021. ولم تنل جولات ترخيص النفط والغاز السابقة منذ 2014 اهتماما كبيرا من الشركات العالمية. وسيتبع الآخرون الآلية الأوروبية للجوار، لكن ذلك لن يؤدي إلى إصلاح هيكلي.
واستمرت سياسة منح الإعانات للمستهلكين عندما يكون سعر النفط مرتفعا وفرض اقتطاعات غير متوقعة عند هبوطه لمدة أربعين سنة.
وقوّضت هذه السياسة القاعدة الصناعية التي بنتها الدولة في السبعينات بشكل خطير، فقبل خمسين عاما، كان بإمكان وزير الصناعة الذي تضمنت اختصاصاته الطاقة التباهي بأن “الجزائر ستكون يابان أفريقيا في 2000”.
ولم يحدث هذا ولم يتعلم الجيش الجزائري من دروس النجاح الاقتصادي الذي شهدته دول مثل الصين وكوريا الجنوبية وتركيا. ويصرّ على رفضه السماح لكبرى الشركات الجزائرية بالاندماج في السوق العالمية. وغادر العديد من رجال الأعمال والاقتصاديين والمهندسين من القطاع الخاص بلدا يتفوق في ضرب نخبه.

وكانت الجزائر تشهد ما يسمّى بالاستغناء عن الصناعة لثلاثين سنة. فبينما بلغ الاستثمار في الصناعة 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي حتى أوائل الثمانينات، لا يتجاوز اليوم 10 في المئة، مقارنة بمتوسط 30 في المئة في الاقتصادات الآسيوية الناشئة.
وقد تكون الطموحات الاقتصادية لرئيس الجزائر الثاني هواري بومدين (1965-1978)، مبالغا فيها. لكن لا بد أنه يتقلّب في قبره وهو يرى أمية خلفائه الاقتصادية. وتكمن النتيجة في حرمان الجيل القادم من الوظائف والأمل. ويجب على البلاد تعزيز دورها كمصدّر للغاز إلى أوروبا لتنال نفوذا إقليميا أكبر.
وجرى التوقيع على أكثر من مئة مشروع مشترك خارج قطاع المحروقات بين شركات حكومية جزائرية وشركات دولية عند بعث إصلاحات اقتصادية جريئة من قبل. وكان تحديث قواعد قطاع الطاقة مسؤولا عن زيادة كبيرة في الاستثمار الأجنبي والإنتاج والصادرات على الرغم من الحرب الأهلية المستمرة. ونشأ شتات جزائري مؤهل تأهيلا عاليا في أوروبا والخليج منذ الثمانينات، وسيرحب بفرصة إدخال الشركات الجزائرية في شبكات التجارة والاستثمار العالمية.
وتنتشر الكثير من احتياطيات الغاز الجديدة في الجزائر بالتوازي مع استمرار دور الغاز الطبيعي الحاسم في تحول الطاقة. لكن الغاز الطبيعي المسال وحده لا يمكنه لعب دور عامل التعديل الذي يتمناه الاتحاد الأوروبي في سوق تحرّر بالكامل.
أي إصلاح لسياسة الطاقة الجزائرية يجب أن يُعالج المسألة السياسية المتمثلة في الدعم، فلطالما بادلت القيادة الأسعار الرخيصة للمواد الغذائية والطاقة مقابل قبول الحكم الاستبدادي
فبعد الترويج لسياسة لتحرير أسواق الغاز منذ 1998، أصبح الاتحاد الأوروبي ضحيّة خطته حيث أن إمدادات الغاز الطبيعي المسال الإضافية نادرة ومكلفة. ومع ذلك، فإن الحرب في أوكرانيا توفر للجزائر فرصة فريدة لتحديث قطاع طاقتها مع تطوير إنتاج الهيدروجين والأمونيا والطاقة الشمسية لإدخال اقتصادها في الشبكات العالمية. فهل يقدّر قادة الجزائر أن الجيش المجهز تجهيزا جيّدا ليس بديلا عن اقتصاد متنوع ومنفتح؟ أنا أشك كثيرا في ذلك.
وتبرز مشكلة الطاقة في الجزائر للجميع مع توفير الغاز لشركة سونلغاز، التي تحتكر إنتاج الكهرباء وبيعه بأقل من 0.30 دولار/مليون وحدة حرارية بريطانية، وهو سعر لا يغطي تكاليف إنتاج سوناطراك. كما أن معدل كفاءة محطات الطاقة القديمة منخفض جدا (حوالي 36 في المئة) وخسائر الشبكة عالية. وستبدأ الصادرات في الانخفاض بعد 2025 بسبب نقص الإنتاج ويمكن أن تتوقف بعد 2030 حيث قد يتعيّن قصر الإنتاج للاستهلاك المحلي.
وينقسم إنتاج الغاز الحالي البالغ 130 مليار متر مكعب إلى ثلاثة أجزاء متساوية تقريبا: الاستهلاك والتصدير وإعادة الحقن.
لكنّ تقريرا حديثا سلّط الضوء على نقطة تجاهلها الكثيرون منذ فترة طويلة. ويمكن أن تبدأ أوروبا في غضون 12-24 شهرا في استبدال ما يصل إلى 15 في المئة من الغاز الروسي من خلال التقاط الغاز من الحرق والتنفيس والتسريب في المنطقة، مما سيسمح أيضا لمنتجي الغاز “بتقليل انبعاثات مكافئ ثاني أكسيد الكربون بشكل كبير دون تأخير تحول الطاقة والاستفادة بشكل كبير من تدفقات الإيرادات الجديدة لإعادة الاستثمار في مصادر الطاقة النظيفة”.
ويعدّ حجم “مصدر الإمداد” من الغاز الضائع الذي لا يتمتّع بالتقدير الكافي مذهلا. ويصل إلى 260 مليار متر مكعب سنويا في جميع أنحاء العالم. وكان هذا العدد في الجزائر حوالي 9 مليار متر مكعب في 2020، مع تسجيل نسبة “كثافة احتراق الغاز”، عند 23 مترا مكعبا للبرميل، أي أكثر من أربعة أضعاف المتوسط العالمي.
وتكمن المفارقة في أن الكثير من هذا الغاز المشتعل والمنفس والمتسرب لا يمكن التقاطه إلا من خلال الحلول المثبتة التي تدرّ المال، ويمكن تصديره إلى أوروبا عبر خطي الأنابيب ومحطتي للغاز الطبيعي المسال، وهما غير مستغلتين بشكل كبير.
ولا يحمل أي مخطط للإصلاح فرصة للنجاح إذا فشل في حشد دعم شعبي واسع. وكان هناك شبه إجماع في 1971 عندما قررت الجزائر تأميم أصول النفط والغاز الأجنبية.

ويجب التذكير هنا بفشل محاولة شكيب خليل للتحرير في 2005 والاحتجاجات التي زامنت قرار الحكومة بالبدء في استغلال موارد الغاز غير التقليدية التي اندلعت في 2015 ومرة أخرى في 2020. وقد مُنح تصريح البحث لاستغلال الطَفَل الصَفحي لشركة هاليبرتون التي أجبِرت على تصفية فرعها الجزائري بعد ظهور عقود بمليارات الدولارات من التداولات خارج البورصة مع شركاء محليين، ولاسيما وزارة الدفاع.
ويجب أن يعالج أي إصلاح شامل لسياسة الطاقة الجزائرية المسألة السياسية المتمثلة في الدعم. فلطالما بادلت القيادة الجزائرية الأسعار الرخيصة للمواد الغذائية الأساسية والطاقة مقابل قبول الحكم الاستبدادي. وأظهر الحراك أن ملايين الجزائريين يريدون أن يكون لهم رأي في مستقبل بلادهم. وسيكون الإصلاح الهيكلي مستحيلا دون نقاش شعبي. لكن مع غياب مساحة للنقاش العام، فإن فرض الإصلاح على الجزائريين سيمدد عدم الاستقرار.
وكانت النزعة القومية للنفط والغاز قوية في الجزائر بسبب كفاح البلاد المرير من أجل الاستقلال. وجاء ذلك في 1962، أي بعد عامين مما كان مفترضا لأن الرئيس شارل ديغول حاول فصل الصحراء التي اكتُشف النفط فيها عن الدولة الناشئة حديثا.
وتعود الروابط بين الجزائر وإيطاليا إلى 1960-1962، لمّا كان إنريكو ماتي مؤسس إني الإيطالية مستشارا للحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية خلال المفاوضات مع الجنرال شارل ديغول التي أدت إلى الاستقلال. ولا يزال العديد من الجزائريين يعادون فكرة أن يلعب رأس المال الجزائري الخاص دورا في هذا القطاع. وغالبا ما تشوب الشكوك الاستثمار الأجنبي مع نقص النقاش العام المستنير حول هذا الموضوع. وهذا ما يشجع نظريات المؤامرة.
ومع ذلك، فإن المزيد من الجزائريين يدركون أن الشركات العالمية قد قدمت في الماضي مساهمة إيجابية في بناء الطاقة والبنية التحتية الصناعية. كما لا يتجاهلون الدور الذي يمكن أن يلعبه رواد الأعمال الجزائريون في قطاع الطاقة.
إذا استغلت الجزائر فرصة الغاز، فسيساعد ذلك على تعزيز دور إيطاليا الرئيسي كمركز للغاز في حوض المتوسط وتشجيعها على لعب دور أكثر طموحا واستقلالية في تشكيل سياسة أوروبا تجاه المنطقة. ولا يمكن للجزائر إلا أن تلوم نفسها إذا فشلت في مواجهة التحدي التاريخي وفوّتت فرصة فريدة لتعزيز تعاونها في مجال الطاقة والصناعة مع أوروبا.