هل تندثر أدوات وروح الكتابة التقليدية في عصر العولمة

ترتبط الكتابة بالحبر على مرّ التاريخ البشري ارتباط ظاهر الورق بقفاه. فالكتابة، باعتبارها فعلا ثقافيّا سعى من خلالها الإنسان ومازال إلى إثبات وجوده في الكون وضبطه وتأسيسه ومن ثمّة تنظيمه وتخليد مروره العابر به، ما كان لها أن تتمّ دون الالتجاء إلى الرسم والنقش على الحجر والشجر كما أثبتت ذلك الحفريات في ما تركه الإنسان من تراث مادي منذ العصور الغابرة.
الاثنين 2015/08/03
تختلف محامل وأدوات الكتابة التقليدية بحسب درجة التطور التي بلغها الإنسان

بعد اكتشاف الإنسان للحبر في مرحلة متأخّرة نتيجة مباشرة لاكتشافه للنار التي كان لها الدور الأساس في نقله من مرحلة التوحّش إلى مرحلة التحضّر والآدميّة. فلا بدّ من أن نستحضر هذه الحقيقة، كما يقول مارك شانيتيان، التي تتمثّل في أنّ الحبر يُولد من الاحتراق ومثله مثل القلم الفحميّ يستمدّ سواده من النار.

ما يقال عن ارتباط الكتابة بالحبر يُقال عن صلاتها التاريخيّة بالورق والقلم وكلّ أدوات الكتابة التقليديّة من محبرة وقرطاس ومقلمة والجفّاف الذي يمتصّ الحبر السائل في غير موضعه على ورقة الكتابة والذي يهدّد بطمس بعض ما حُبِّر وكُتِب، وهي أدوات لازمت الفعل الكتابي لقرون طويلة قبل أن يشهد هذا الفعل ثورة عظيمة بنشأة الكتابة الإلكترونيّة وانتشارها على نطاق واسع في ظل عولمة الاقتصاد والثقافة والذوق العام في الأكل واللّباس وكذلك الكتابة ذاتها.

لقد بدأت الكتابة تتنصّل تدريجيّا من التزاماتها القديمة وتفكّ ارتباطها وقرانها بأدواتها التي ذكرناها ولم يعد القرطاس والقلم يعرفان صاحبهما كما قال المتنبّي في بيته الشهير وما عاد هو يعرفهما كما كان الأمر عليه منذ قرون. وصار الكاتب اليوم يهجر شيئا فشيئا قلمه وحبره ومحبرته وقرطاسه وورقته إلى الكمبيوتر وملامسه الحرفيّة والرقميّة ويلوذ مكرها أخاك لا بطل في الكثير من الأحيان إلى الفضاء الافتراضي والكتابة فيه عسى أن يضمن لكتاباته أكثر رواجا وانتشارا لما يكتبه وبأكثر سرعة ممّا كان يكتبه على الورق بخطّه وحبره وقلمه.

ما هو حال الكتابة وهي تنتقل من طور إلى طور؟ من ذاتيّة أكثر حميميّة سبقت عصر الكتابة التكنولوجية بعد اختراع المطابع وآلات الكتابة العصريّة ثمّ بعد ذلك العولمة الإلكترونيّة التي زادتها تعقيدا، هذه الذاتيّة التي طالما ترجمها الكتاب أوّلا بخطوطهم وطرق رسمهم للكلمات المختلفة، وباختلاف بصمات أيديهم بواسطة القلم والحبر والورقة والتي طالما التصقوا بها التصاق الرضّع بأثداء أمّهاتهم إلى طور الشكليّة والنمطيّة التقنيّة والإلكترونيّة المعولمة التي تكاد تنفي الخصوصيّات الفرديّة إنْ لم يكن في أسلوب الكتابة الذي يظلّ مع ذلك فرديّا خالصا “الإنسان نفسه” فعلى الأقلّ في مستوى علاقة الكاتب بما يكتب وبنفسه وبقارئه وبموضوع كتابته؟

الكتابة المسمارية من بين أقدم أنواع الكتابة المرتكزة على الرسوم والرموز
هل يمكن للكتابة اليوم أن تحافظ على صدقية رسالة الكاتب وقدرتها الإبلاغيّة وتمرّر الشحنة العاطفيّة التي يشحن بها الكاتب مكتوبه بالخطّ والقلم والحبر كما يدلّل على ذلك أبو حيان التوحيدي منذ عشرة قرون وهو يخاطب قارئه “وأنا أعيده ههنا بالقلم، وأرسُمُه بالخطّ.. حتّى يكون اعترافي به أرسى وأثبت وشهادتي على نفسي أقْوى وأوْكد، ونُكُولي عنه أبْعدُ وأصعب وحكمك به لي وعليّ أمْضى وأنْفذ”.
ما هي التداعيات النفسيّة والثقافيّة من وجهة نظر أنتروبولجية على الكاتب الباث والقارئ المتقبّل؟ وإلى أيّ حدّ يمكن للكتابة في طورها المعولم أن تحقّق لكاتبها وقارئها ما سمّاه التوحيدي “الإمتاع والمؤانسة”، وهو عنوان لأحد كتبه؟ ثمّ هل بالإمكان للإنسانيّة أن تحافظ في النمط الجديد للكتابة على طبيعة الكتابة بأدواتها التقليديّة: الورق والحبر والقلم كما عرفتها طوال تاريخها وكما تشهد بذلك بعض النصوص العربيّة اللّغوية والأدبيّة المدوّنة والتي يحمل بعضها آثار المشافهة باعتبارها فعلا وجوديّا يتمحور حول معاني الخصوبة والنماء وتجديد الحياة والحفاظ على النوع البشري.

ثمّ أخيرا وليس آخرا إذا كانت حركة التاريخ تسير إلى الأمام ومن العبث إرجاعها إلى الوراء وتبعا لذلك لا مفرّ من التسليم بدخول الكتابة مرحلة جديدة ونوعيّة هي المرحلة الإلكترونيّة التي ينبغي الاستفادة منها في نشر المعرفة على نطاق واسع وتحرير الكتابة من ربقة المطابع الورقيّة، ما هي السبل الكفيلة بالحفاظ على إرث الكتابة التقليديّة الذي توارثته البشريّة جيلا بعد جيل طيلة قرون من الزمن؟

لا شكّ أنّ هذا الإرث هو جزء من التراث المادي للإنسانيّة، وإذا كانت اليونسكو قد طرحت على نفسها مهمّة الحفاظ على هذا التراث مثل حفاظها على المئات من اللّغات المهدّدة بالانقراض، أفليس من الطبيعي أن يسعى الكتّاب إلى الحفاظ على إرث الكتابة، خطّا وورقا وقلما وحبرا ليس في المتاحف فقط وإنّما كذلك عبر السعي إلى أن تتبنّاه المدارس على الأقلّ في المراحل الابتدائية والإعدادية، لا سيما وأنّ هذا التراث ليس ماديّا صرفا وإنّما ينقل تجربة وجدانيّة وروحيّة يختلط فيها العامل الثقافي بالنفسي والذاتي بالموضوعي على نحو كبير؟
12