هل تطرب الحكومة المصرية للشائعات

المصريون يطرحون أسئلة عديدة في مجالات سياسية واقتصادية وأمنية ولا يجدون ردا مباشرا شافيا من الحكومة عليها إلا عندما تتفاقم الشائعات وتقترب من التشكيك في تصرفات مؤسسات الدولة.
الجمعة 2024/01/12
غياب الشفافية والوضوح بيئة خصبة لنشر الشائعات

تعاني الحكومة المصرية من ويلات الشائعات التي تطالها، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، ومع أنها خصصت وحدة للرد عليها، إلا أنها لم تتمكن من تأكيد نجاحها في المهمة الموكلة إليها، وبدت ردودها قاصرة على النفي دون تقديم إجابات كافية تعززه وتقنع المتلقين بمصداقيته وتدحض حجج من أطلقوا أكاذيب للنيل من سمعة الحكومة.

فقدت وحدة الرد على الشائعات بمجلس الوزراء أهميتها قبل أن يبدأ دورها فعليا، حيث تعاملت مع الأمر بطريقة بيروقراطية عقيمة، فما تقوله الحكومة واجب التسليم به تماما من المواطنين، بلا اعتبار لمدى ما يحويه من منطق وأسانيد، حتى توارت الوحدة تقريبا ولم تقم بمهمتها التقليدية في النفي الجاف وبقيت الشائعات على حالها.

يعلم مسؤولون كبار أن ظاهرة انتشار الشائعات تنال من جهود الحكومة، وتؤثر على سمعة النظام المصري في الداخل والخارج، ومع ذلك لا يقومون بواجبهم الحقيقي في الرد الطبيعي عليها، لأنهم غير مخولين من جهات أعلى أو فاقدي المعلومات أو يخشون على مواقعهم من الوقوع في خطأ يكلفهم التضحية بمقاعدهم الوثيرة.

◙ جانب مهم في عملية الرد يقع على عاتق الرئيس عبدالفتاح السيسي، وهي مركزية جعلت الكثير من المسؤولين يعزفون عن الإجابة على ما يطرح عليهم من أسئلة جادة

قد تكون كل هذه الأسباب مجتمعة أسهمت بدور في تصاعد حدة الشائعات، وبدت الحكومة كأنها مستفيدة منها لشغل الناس عن همومها، فما من قضية يتم طرحها وتفتح بابا للإثارة تجد ردا سريعا عليها من أي مسؤول، ويأتي الرد متأخرا ومبتورا عندما تكبر بالصورة التي تصبح مزعجة للحكومة، ويقتصر غالبا على عبارة “عدم صحة ما تردد بشأن..”، ما يمنح الشائعة مصداقية جديدة، لأن الطريقة التي تكذب بها الحكومة ما أثير لا تحمل ردا مقنعا.

وجدت الحكومة في الرد من خلال “مصدر مسؤول”، لا أحد يعرف هويته بالضبط، وسيلة للرد على بعض القضايا الأمنية، وزاد اللجوء إلى هذه الصيغة مع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، ما يقلل من جدوى ما يقوله المصدر مهما كانت أهميته.

لا أحد يعلم أسباب التجهيل، مع أنه ثبت لدى متابعي هذه النوعية من المصادر أنهم ينتمون إلى أجهزة أمنية رفيعة، ربما تكون طبيعة مهامهم تستوجب إخفاء شخصياتهم، لكن من الصعب أن تكون غالبية المعلومات المهمة تأتي من مصادر مجهولة.

امتلكت الحكومة المصرية تجربة ذكية عقب اندلاع حرب غزة عندما أوكلت إلى رئيس هيئة الاستعلامات ضياء رشوان مهمة الرد على وسائل الإعلام وعقد مؤتمرات صحفية، لكنها لم تعمم التجربة، وكل الوزارات التي تملك وحدات متقدمة خاصة بالإعلام غير مكترثة بالرد الدقيق على الشائعات، ما جعلها تنهش جهود الوزراء.

تلعب الجهات التي تنشر الشائعات في مصر، سواء أكانت إخوانية أو غاضبة من تصرفات الحكومة، على وتر عدم جرأة الكثير من المسؤولين على الرد سريعا، وفتح المجال أمام قضايا مثيرة للجدل يجعل الناس تتشكك في توجهات الحكومة وتعيد النظر في تقبل تصرفاتها الإيجابية عموما، معتمدة على خمول واضح في الجهاز الإعلامي الذي يتحرك وفقا لتراتبية تعيق قدرته على توفير الردود المناسبة.

◙ وحدة الرد على الشائعات بمجلس الوزراء فقدت أهميتها قبل أن يبدأ دورها فعليا، حيث تعاملت مع الأمر بطريقة بيروقراطية عقيمة

رسخ في عقل الحكومة أن الشائعات تقف خلفها جهات تتربص بها، ما يسهم بجزء معتبر في تجاهل تقديم المعلومات الصحيحة والبطء في التعامل مع الموضوعات المثارة، وتمس كثيرا قضايا حيوية، لها علاقة بالأمن القومي، وربما تكون الحكومة مطمئنة لما تقوم به أجهزة الدولة من تحركات، غير أن غياب البيانات جعل شريحة من المواطنين تتعامل مع الشائعات بجدية وتهتم بترديدها حتى تتحول إلى أزمة.

تستطيع الحكومة أن تتجنب خلق أزمة والبحث عن حلول عملية لها إذا تمتعت بدرجة مرتفعة من الشفافية والوضوح والمبادرة، لأن التجاهل أو الردود المقتضبة قد توفر للشائعة قدرة كبيرة على الصمود واختراق بعض الحواجز الصلبة، بما يصعب مهمتي النفي والتكذيب لاحقا، ويعطي أصحابها فرصة لترويجها على نطاق واسع.

ما جعل البعض يعتقد أن الحكومة تطرب للشائعات هو تركها فترة من الوقت تتفاعل في أوساط فئة كبيرة من المواطنين، وفي ظل الدور المؤثر الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي لا يحتمل الرد عليها ترف الانتظار أو التجاهل أو تركها وسيلة للتسلية والأخذ والرد، لأن بعض القضايا التي يتم التطرق إليها تتعلق بصورة النظام الحاكم وثوابت الأمن القومي، وهما من الموضوعات التي يؤدي التهاون معها إلى عواقب وخيمة، وتحتاج معالجتها وقتا طويلا للتخلص من روافدها السلبية.

تتفرع عن الشائعات أزمة أكثر حيوية، هي المبادرة بتقديم المعلومات من قبل الحكومة، فتجاهل مناقشة بعض القضايا يفتح الباب لآخرين للتطرق إليها، ويملك هؤلاء اليد الطولى في بث رؤيتهم، وعندما تنتبه الحكومة تكون خسرت وقتا وجهدا وتدفع ثمنا سياسيا باهظا، فمطلوب منها الرد والنفي ومسح الانطباعات السلبية ثم توفير أبعاد ترسيخ الصورة المطلوب أن تعلق في أذهان الناس بدلا من المكذوبة.

◙ مسؤولون كبار يعلمون أن ظاهرة انتشار الشائعات تنال من جهود الحكومة، وتؤثر على سمعة النظام المصري في الداخل والخارج، ومع ذلك لا يقومون بواجبهم الحقيقي في الرد الطبيعي عليها

يميل البعض من المسؤولين في مصر إلى انتظار الأزمة ثم التعامل معها، على أمل ألا تكبر وتحدث ضجيجا أو تجد وسائل علاجها بعيدا عنهم، وفي الحالتين يصعب القول بعدم ظهور أزمة أخرى، فالشائعات تنشط في البيئة المغلقة، وتلك التي تحيط نفسها بمجموعة من “التابوهات” أو المحرمات المتعلقة باحتكار المعلومات من قبل الدولة، وعدم إطلاع الناس عليها بسهولة، مع أن معظم المعلومات المحجوبة لا تتوافر لها قواعد السرية، فقط لأنها أحد الأسلحة والمزايا التي يعتمد عليها كبار المسؤولين في تبرير بعض تصرفاتهم وإحاطتها بقدر من الغموض على سبيل الأهمية.

يفسر هذا الجانب عدم قلق بعض المسؤولين من انتشار الشائعات وربما مباركتها، إلا في الحدود التي تمثل خطرا على مواقعهم، وقتها يمكن أن ينتفضوا لتفنيدها، وتبدو آليات الحكومة في التعامل معها مترددة عندما تجد زوايا مفيدة لها في معرفة المدى الذي يمكن أن تصل إليه من تأثير في المجتمع ودرجة تفاعل المواطنين، فقد تكون مقياسا ومعيارا لمعرفة توجهات الرأي العام حيال أزمة معينة أو قضية قريبة منها.

يطرح مصريون أسئلة عديدة في مجالات سياسية واقتصادية وأمنية ولا يجدون ردا مباشرا شافيا من الحكومة عليها، إلا عندما تتفاقم الشائعات وتقترب من التشكيك في تصرفات مؤسسات الدولة.

يقع على عاتق الرئيس عبدالفتاح السيسي جانب مهم في عملية الرد، وهي مركزية جعلت الكثير من المسؤولين يعزفون عن الإجابة على ما يطرح عليهم من أسئلة جادة، وظهرت الأزمة على السطح بصورة أكبر بعد أن أصبح الرئيس السيسي مقتضبا وربما شحيحا في ردوده، ما يستلزم تفعيل دولاب الدولة في الرد على الشائعات حتى لا تبدو الحكومة في نظر المواطنين كأنها مرتاحة للتعايش معها.

8