هل تضع الحوسبة الكمومية الفصل الأخير لعصر السيليكون

تشهد أجهزة الكمبيوتر تطورات متلاحقة، فبعد أن ظهرت بحجم يماثل حجم غرفة كبيرة باهظة، قادت الابتكارات إلى تقليص حجمها على مر العقود وسمحت بإنتاج أجهزة أكثر قوة وأصغر حجما بأسعار معقولة، والآن تقترب البشرية من الاحتفال بتقديم آخر جيل من أجهزة الكمبيوتر الرقمية الكلاسيكية لتحل محلها حوسبة كمومية ذات كفاءة وسرعة لا يمكن للحوسبة التقليدية مجاراتهما، ولكن الأمر لا يخلو من تحديات كبيرة تواجه تطوير وتشغيل الكمبيوترات الكمومية.
واشنطن - يشتد التنافس بين الدول وشركات التكنولوجيا حول تطوير الكمبيوترات الكمومية، نظرا إلى القدرات الفائقة التي تعد بها هذه التكنولوجيا الجديدة، فالبشرية تقترب من الاحتفال بتقديم آخر جيل من الكمبيوترات الرقمية الكلاسيكية التي غيرت شكل العالم خلال عدة عقود.
فالخبراء يعتقدون أن أجهزة الكمبيوتر الكمومية ستحل محل الكمبيوترات الرقمية الكلاسيكية في مكاتبنا وستحدث ثورة أخرى في حياتنا خلال العقدين المقبلين.
ويرون أن التحول بات حتميا نحو تطوير أجهزة كمبيوتر تعمل على المستوى الذري أو الكمي، بعد أن أصبحت أجهزة الكمبيوتر الكلاسيكية -هذه الهندسة المعمارية القائمة على السيليكون- قريبة جدا من الوصول إلى أقصى قدرة حوسبية لها.
وتناول د. إيهاب خليفة، رئيس وحدة التطورات التكنولوجية، بإسهاب مزايا الكمبيوترات الكمومية، في مقال نشره مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة تحت عنوان “الكمبيوترات الكمومية.. هل أوشكت نهاية عصر السيليكون؟”.
قدرة الكمبيوتر الكمي الفريدة تفتح إمكانات جديدة لحل المشكلات التي كان يُعتقد سابقا أنه لا يمكن حلها بالوسائل الرقمية
وكتب خليفة أن الكمبيوترات الكمومية قوية إلى درجة أنه يمكن وصفها بـ”الكمبيوتر اللامتناهي”، فمن الناحية النظرية يمكن لهذه الأجهزة أن تكسر جميع شيفرات الأمان الإلكترونية المعروفة، وهذا الوضع خطير إلى درجة أن المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا الأميركي، الذي يضع السياسات والمعايير الوطنية، أصدر إرشادات لمساعدة الشركات الكبرى والوكالات الحكومية على التخطيط للانتقال الحتمي إلى العصر الكمي الجديد.
وكان المعهد الأميركي أعلن بالفعل توقعه أن تكون الكمبيوترات الكمومية قادرة على كسر تشفير “إيه إي أس” بتقنية 128 بتا بحلول عام 2029، وتشفير “إيه إي أس” تستخدمه الكثير من الشركات في حماية بياناتها، وتنفق الدول عشرات المليارات من الدولارات لحمايته.
ولا تقتصر تطبيقات الكمبيوترات الكمية أو الكمومية على الجانب الأمني والعسكري فقط، بل تتنوع لتشمل العديد من المجالات، بدءا من الطب ومرورا بالبيئة والمناخ والطاقة ووصولا إلى الفضاء، وهي قادرة على القيام بحسابات تعجز أجهزة الكمبيوتر التقليدية عن القيام بها، فمثلاً في عام 2019 أعلنت شركة غوغل عن تطوير جهاز “سيكامور” الذي استطاع أن يحل مسألة حسابية في مدة 200 ثانية، وهذه المسألة قد تستغرق من الكمبيوترات الرقمية الكلاسيكية 10 آلاف عام.
وادعت غوغل آنذاك أنها حققت إنجازا كبيرا في سعيها لبناء مثل هذا الجهاز، من خلال تحقيق “التفوق الكمي”؛ أي حل المشكلات التي لا تستطيع أي آلة كلاسيكية القيام بها.
وكانت الشركة الاستشارية والتقنية الأميركية “آي بي أم” أعلنت في عام 2021 عن تطوير جهاز الكمبيوتر الكمي الخاص بها المسمى “إيغل”.
نهاية عصر السيليكون
هذا ما يظهر تسابق العديد من شركات التكنولوجيا العملاقة لتطوير الكمبيوترات الكمية، مثل غوغل ومايكروسوفت وإنتل، و”آي بي أم” وريجيتي وهانيويل، وجميعها تعمل على بناء نماذج أولية للكمبيوترات الكمومية، علما أن المنافسة لا تقتصر على الشركات الأميركية فقط بل تشمل أيضا الشركات الصينية.
ففي عام 2020 أعلن معهد الابتكار الكمي في الصين تطوير كمبيوتر كمي أسرع بمقدار 100 تريليون مرة من جهاز كمبيوتر خارق.
في الخمسينات من القرن الماضي كانت أجهزة الكمبيوتر عملاقة إلى درجة أنها تعادل حجم غرفة كبيرة كاملة، وكان يمكن فقط للشركات الكبيرة والوزارات والمؤسسات الحكومية، مثل وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) والبنوك الكبرى، شراء أجهزة الكمبيوتر.
فعلى سبيل المثال كان بإمكان الكمبيوتر (ENIAC) أن يقوم في ثلاثين ثانية بما قد يتطلب من الإنسان قضاء عشرين ساعة لإتمامه، لكنه كان باهظ الثمن وضخما، إلى أن حدثت ثورة في تطوير الرقائق الإلكترونية وتقلص حجم أجهزة الكمبيوتر على مر العقود حتى أصبحت شريحة واحدة بحجم الظفر قادرة على أن تحتوي على حوالي مليار ترانزستور، وهو جهاز يُستخدم لتضخيم أو تبديل الإشارات الكهربائية، ويعمل على مبدأ التحكم في تدفق الإلكترونات، وتمثل الحالة 1 في اللغة الثنائية عملية تدفق الإلكترونات عبر الترانزستور والحالة 0 عدم تدفق تلك الإلكترونات. هذا التطور مكّن المهندسين والعلماء من تطوير أجهزة كمبيوتر صغيرة ومحمولة، وتطور الأمر إلى ظهور الهواتف الخلوية وأجهزة إنترنت الأشياء وغير ذلك من الإلكترونيات الدقيقة.
ونتيجة لتسارع عملية تطوير الشرائح الإلكترونية صاغ جوردون مور، أحد مؤسسي شركة إنتل، في عام 1965 مبدأً عرف باسم “قانون مور”، وينص على أن عدد الترانزستورات يتضاعف تقريبا كل عامين، وهو ما يؤدي إلى زيادة الأداء وانخفاض التكاليف بشكل متزامن.
نهاية عصر السيليكون وتوقف قانون مور هما بداية لعصر الكوانتم؛ فتكنولوجيا الحوسبة مستمرة بطرق جديدة، أبرزها الحوسبة الكمومية
وفي تحديث لاحق لهذا القانون عدّل مور الفترة إلى كل 18 شهرا. هذا المبدأ لا يُعد قانونا فيزيائيا بالمعنى الصارم، بل هو ملاحظة تجريبية توجه صناعة أشباه الموصلات، وقد أدى هذا القانون دورا حاسما في تطور صناعة الإلكترونيات، إذ قاد الابتكارات وخفض تكاليف الإنتاج وسمح بإنتاج أجهزة إلكترونية أكثر قوة وأصغر حجما وبأسعار معقولة.
ومع ذلك، أشار العديد من الخبراء في السنوات الأخيرة إلى أن قانون مور قد بدأ يصل إلى حدوده الفيزيائية. والسبب الرئيسي هو أن الترانزستورات قد أصبحت صغيرة إلى درجة أنها اقتربت من حدود ما يمكن تحقيقه باستخدام التقنيات الحالية، لأن الشرائح الإلكترونية باتت مضغوطة للغاية بحيث أن عرض الترانزستورات صار يبلغ حوالي عشرين ذرة فقط. وعندما تصل هذه المسافة إلى حوالي خمس ذرات عرضا، يصبح موقع الإلكترون غير مؤكد بسبب مبادئ ميكانيكا الكم (والإلكترونات في هذه الحالة هي العناصر الحاملة للشحنة الكهربائية في الترانزستورات وتؤدي دورا حاسما في تشغيل ومعالجة البيانات داخل الكمبيوتر).
هذا الغموض في موقع الإلكترون مع صغر حجم الترانزستور يمكن أن يؤدي إلى “تسرب” الإلكترونات من مسارها المحدد (أي البوابات المسؤولة عن مرور الإلكترونات من داخلها)، ما يتسبب في تقصير دائرة الشريحة أو يولد حرارة مفرطة قد تذيب الشرائح. بمعنى آخر، بموجب قوانين الفيزياء يجب أن ينهار قانون مور في نهاية المطاف إذا استمررنا في استخدام السيليكون بشكل أساسي، فقد وصلت هذه الهندسة الحوسبية المعمارية إلى نهايتها، وبالتالي قد نشهد نهاية عصر السيليكون.
هذا لا يعني أن التقدم في تكنولوجيا الحوسبة قد توقف، ولكن يعني أن الابتكار قد بدأ يتحول من مجرد زيادة عدد الترانزستورات على شريحة إلى تحسينات في تصميم الأنظمة، واستخدام مواد جديدة، واستكشاف معماريات حوسبة جديدة. بمعنى آخر، قد يكون قانون مور كما نعرفه قد وصل إلى نهايته، ولكن الابتكار في تكنولوجيا الحوسبة مستمر بطرق جديدة تأتي على رأسها الحوسبة الكمومية.
بداية عصر الكوانتم

يلفت خليفة في مقاله إلى أن نهاية عصر السيليكون وتوقف قانون مور هما بداية في نفس الوقت لعصر الكوانتم؛ فصغر المساحة التي يعمل عليها الترانزستور وتراجعها إلى أقل من خمس ذرات يعنيان أننا بدأنا بالفعل في الهندسة على مستوى الذرة الواحدة، وبدلاً من الاعتماد على الترانزستور للتحكم في عملية تدفق الشحنة الكهربائية سيتم الاعتماد على حركة الذرات نفسها.
وقال “لك أن تتخيل توظيف حركة الذرة في القيام بعمليات حوسبية بدلاً من الترانزستور الذي يقوم بعملية تمرير التيار الكهربائي والتحكم فيه فقط، وفي هذه الحالة يتم استخدام ميكانيكا الكم لمعالجة وتحليل كميات هائلة من البيانات بشكل متزامن، بدلاً من معالجتها بشكل متسلسل مثل ما يقع في الكمبيوترات الرقمية.
وتابع “فمثلاً إذا كانت لدينا متاهة فيها فأر وقطعة جبن في آخر المتاهة، سوف يحتاج الكمبيوتر الرقمي إلى فحص كل طريق محتمل في المتاهة واحدا تلو الآخر بشكل متسلسل، إلا أنه يمكن للكمبيوتر الكمي تقييم جميع المسارات في وقت واحد، وبسرعة فائقة فيصل إلى نتيجة في اللازمن تقريبا. هذه القدرة الفريدة تفتح إمكانات جديدة لحل المشكلات التي كان يُعتقد سابقا أنه لا يمكن حلها بالوسائل الرقمية”.
وتتمثل قوة الكمبيوترات الرقمية الكلاسيكية في عدد البتات (Bits) التي يمكن معالجتها في الثانية الواحدة، والتي إما أن تكون 1 في حالة التشغيل أو صفرا عند إيقاف التشغيل. ولكن نظرا إلى أن الذرة توجد على أكثر من حالة واحدة في نفس الوقت فإنها تستخدم وحدة البت الكمومية أو الكيوبت التي تعتمد على مبادئ ميكانيكا الكم، إذ تكون في تراكب من الحالات أو ما يعرف باسم التراكب الكمي. بمعنى أن الذرة قد تدور وهي متجهة إلى أعلى أو إلى أسفل، أو يمينا أو يسارا، أو تدور إلى أعلى ناحية اليمن أو اليسار، في الحقيقية هي تدور في عدد لا نهائي من الاتجاهات كلها في ذات الوقت، مما يعني أنها تحمل الحالة 0 والحالة 1 وكذلك الحالة (0 ،1) في نفس التوقيت، فإذا كانت وحدة البت الكلاسيكية تعني حالة مرور التيار الكهربائي، فإن الكيوبت تعني حالة دوران الجزيئات داخل الذرة، مثل الإلكترون والبروتون والنيترون.
تطبيقات الكمبيوترات الكمومية لا تقتصر على الجانب الأمني والعسكري، وإنما تشمل العديد من المجالات، بدءا من الطب ومرورا بالبيئة والمناخ والطاقة ووصولا إلى الفضاء
وتكمن ميزة الكيوبت في قدرته على تمثيل الأصفار والواحدات في نفس الوقت (أي حالة الدوران مع حالة الحركة في اتجاهات مختلفة)، هذا السماح بتراكب الحالات يعطي الكمبيوترات الكمومية قدرة هائلة على معالجة المعلومات والقيام بعدة عمليات حسابية في نفس الوقت بكفاءة وسرعة لا يمكن للكمبيوترات التقليدية مجاراتهما.
لذلك يعتبر مبدأ التراكب الكمي أو الفوقية الكمومية أحد الأسس الرئيسية لميكانيكا الكم ويمثل خاصية أساسية تميز الحوسبة الكمومية عن الحوسبة التقليدية، وباختصار فإن هذا المبدأ يصف كيف يمكن للجسيمات الكمومية، مثل الإلكترونات أو الفوتونات، أن تكون في عدة حالات في نفس الوقت.
وعلاوة على خاصية التراكب يتميز الكيوبت أيضا بخاصية التشابك الكمومي، إذ يمكن للكيوبتات التفاعل والتشابك فيما بينها، ففي كل مرة تضيف فيها كيوبتا جديدا يتفاعل مع جميع الكيوبتات السابقة، وبالتالي يتضاعف عدد التفاعلات الممكنة. وهو ما لا يمكن للبتات العادية فعله، إذ تأخذ حالات مستقلة وليست متشابكة، لذلك تكون الكمبيوترات الكمومية بطبيعتها أقوى من الكمبيوترات الرقمية، لأنك تضاعف عدد التفاعلات في كل مرة تضيف فيها كيوبتا إضافيا.
لكن الأمر ليس بهذه البساطة، فحالة التراكب الكمي والرابطة الموجودة بين الذرات قد تتأثر بأي مؤثر خارجي، وهو ما يعدل حركة دوران الذرات وكذلك اتجاهها، وقد ترتبط الذرة بذرة أخرى أو تتفكك الرابطة الذرية بينهما، وبالتالي يفشل استقرار الكيوبت وتزداد الأخطاء الكمومية.
وبحسب المقال المنشور في مركز المستقبل للأبحاث والدراسات، فإنه عندما نحاول قياس حالة الكيوبت لمعرفة ما إذا كان في حالة 0 أو 1، فإن حالة الفوقية أو التراكب الكمي تنهار إلى واحدة من هاتين الحالتين. هذا يعني أنه قبل القياس يمتلك الكيوبت إمكانية الوجود في كلا الحالتين، لكن بمجرد أن نقوم بالقياس يختار الكيوبت حالة واحدة فقط ليكون عليها، لذلك فإن أي نوع من القياس أو التفاعل مع الكيوبت قد يؤدي إلى انهيار حالته الكمومية الفوقية، ما يغير النتيجة المحتملة للعمليات الحسابية. لذلك يُعد التحكم في هذه الحالات والحفاظ على استقرارها دون أن تتأثر بالقياسات الخارجية تحديا كبيرا في تطوير وتشغيل الكمبيوترات الكمومية.
كما أن تصميم البرمجيات والخوارزميات الكمومية يتطلب فهما عميقا لميكانيكا الكم وأساليب جديدة في الترميز والحساب. لكن بالرغم من هذه التحديات، فإن البحث في مجال الحوسبة الكمومية يتقدم بسرعة، وقد أدى إلى تطورات مهمة في مجالات مثل الكيمياء الكمومية وتحسين الخوارزميات والأمن السيبراني.
وفي النهاية أصبح دخول عصر الكوانتم وشيكا للغاية، وفق خليفة الذي أضاف “في أي لحظة قد يستطيع العلماء التحكم في حالة التحلل الكمي، وتحقيق أقصى استقرار ممكن للكيوبتات، ليمهد ذلك الطريق لاكتشافات غير مسبوقة، تزيد الفجوة القائمة بين المجتمعات المتقدمة وتلك النامية”.
وتتعزز الاعتقادات بأن العلماء سيكونون قادرين، من خلال استخدام التأثيرات الفردية لفيزياء الكم، على تسريع التعلم الآلي وحل مشكلة تغير المناخ واكتشاف عقاقير جديدة.