هل تصبح "الصحوة الدينية" مقتلا لروح الإسلام

الاثنين 2016/09/05

بعيداً عن التهييج الأيديولوجي والتّجييش الانفعالي، دعونا نجري مقارنة هادئة وبسيطة، ثم نطرح السؤال الذي قد لا نختلف حول أهميته الآن: لماذا كل هذا الانحدار.. ودعنا نمعن النظر في الحال والمآل قليلا: أولا، عظماء العالم الإسلامي قبل أكثر من نصف قرن: أحمد سوكارنو، جواهر لال نهرو، جمال عبدالناصر، المهدي بنبركة، الخ.. والذين كافحوا وناضلوا من أجل المساهمة في بناء عالم جديد.

في المقـابل، من هم عظماء العالم الإسلامي اليوم: رجب طيب أردوغان الذي يعتبر عدوه الأكبر هو الداعية فتح الله غولن، أم يوسف القرضاوي الذي يعتبر عدوه الأكبر هو الزعيم جمال عبدالناصر، أم خالد مشعل الذي يعتبر عدوه الأكبر هو القائد الفلسطيني ياسر عرفات، الخ..

ثانيا، رموز الحركة السلفية قبل أكثر من نصف قرن: محمد عبده، علال الفاسي، الطاهر بن عاشور إلخ.. والذين خاضوا معركة تجديد الفكر الديني ومحاربة الخرافات بكل جدية وجدارة. في المقابل، لننظر إلى رموز الحركة السلفية اليوم: العريفي، العرعور، الفزازي، الخ.. والذين كل همهم إنتاج فتاوى الحقد واسترخاص الدماء.

ثالثا، أنصار الهوية الحضارية قبل أكثر من نصف قرن من الزمن: محمد إقبال، مالك بن نبي، علي شريعتي، الخ.. والذين مارسوا التفكير، ولو في حدود قابلة للنقاش، وحاولوا بهذا القدر أو ذاك جعل قضاياهم جزءا من الفكر الأممي أو العالمثالثي على أقل تقدير. في المقابل أنصار الهوية الحضارية اليوم : محمد عمارة، طه عبدالرحمن، أبو يعرب المرزوقي، والذين لا يتعدى أفقهم الفكري (ويا للمفارقة) مذهبا دينيا وطائفيا محدودا ومحصورا. وبذلك تركوا الأمراض المفضية إلى الفتن وخراب الأوطان، وأشهروا سيوف النزال وألسنة السجال وغرائز التنطع والقتال في وجه الآباء المؤسسين للفكر الغربي، من ديكارت وكانت وهيدغر، ومن في ركبهم.

رابعا، العصر الذهبي للماضويين قبل أكثر من نصف قرن هو عصر الخلافة العباسية الذي أنتج فعلا المئات من العلماء في مختلف التخصصات، فضلا عن الفنانين والفلاسفة والأدباء. في المقابل، العصر الذهبي للماضويين اليوم موزع بين أوهام عصر الخلافة العثمانية لدى الأردوغانيين، حيث عدد العلماء الذين أنتجهم العالم الإسلامي هو صفر، وبين يوتوبيا الخلافة الراشدة لدى السلفيين، حين كان بوسع “رجل الدولة” أن ينام مثل الراعي تحت الشجرة آمنا على الرعية.

خامسا، أبرز النسـاء الحاكمات في العـالم الإسلامي قبل عقود: بنازير بوتو (رئيسة وزراء سابقة لباكستان)، ميجاواتي (رئيسة سابقة لإندونيسيا)، خالدة ضياء (رئيسة وزراء سـابقة لبنغلاديش)، الخ.. في المقابل، أبرز الحاكمات اليوم: لا واحدة.

أخي المسلم أختي المسلمة، بعيداً عن التهييج الذي تختلط فيه العواطف الدينية بالغرائز البدائية، أمامنا سؤال دقيق: لماذا يأتي كل هذا الانحدار في لحظة تاريخية موسومة بـ”الصحوة الإسلامية”.

في كل الأحوال، قد نختلف حول قدرة أقطاب “الصحوة” على تسيير مؤسّسات الدولة الحديثة، ولا بأس بمثل هذا الاختلاف، ففي حقل السياسة قد تكون التقييمات مجرّد تقديرات، وقد يزايد البعض على البعض الآخر بصدد منجزات وهمية أو فعلية هنا، أو بخصوص مظلوميات حقيقية أو مصطنعة هناك، لكن المؤكد في كل الأحوال –وهذا ما لا يمكن دحضه- أن تيار “الصحوة” قد أجهض في آخر الحساب ممكنات الإصلاح الديني، أجهض بوادر الإصلاح الثقافي، أجهض إرهاصات النهوض الحضاري، وأعاد وعي الناس قروناً إلى الوراء، أعاده إلى ما قبل لحظة المشاريع الإصلاحية النهضوية للقرنين التاسع عشر والعشرين، أعاده إلى ما قبل لحظة الأفغاني ومحمد عبده، بل أعاده إلى ما قبل لحظة ابن رشد وابن عربي، وإنما أعاده القهقرى إلى الهلاك المبين مقابل التمسك بقشة المظاهر الشكلية: الحجاب، اللحية، الصلاة أمام كاميرات التصوير، الإكثار من البسملة والحوقلة والحسبلة والحمدلة أثناء إلقاء الخطب.

لقد ظهرت بوادر الإصلاح الديني مع الحركة السلفية الوطنية، سلفية الزمن الجميل، قبل إجهاضها من طرف تيارات الإسلام السيـاسي المدعـومة بالسلطـة أحيانا، وبالتـديّن الغـوغائي في كـل الأحـوال.

كانت بوادر الإصلاح مع السلفية الوطنية واعدة، لا سيما مع جيل المجددين الكبار في المنطقة المغاربية، جيل الطاهر بن عاشور، والطاهر الحداد، وعلال الفاسي، وغيرهم، وكان من الممكن احتسابها ضمن الآمال العظام لبناء عهد جديد للمجتمعات الإسلامية. غير أنّ الزمن التاريخي لا يتحرك دائما في منحى تصاعدي، بل قد يحدث العكس، قد يرتد إلى الخلف ارتدادا عنيفا، وهذا ما يحدث في مستوى العقل الديني للمسلمين اليوم، حيث نلاحظ تدهورا عابرا للأقطار والأوطان يكاد يصيب الجميع، من داكار إلى جاكرتا، إلى ضواحي المدن الأوروبية.

قد نجح الإسلام السياسي بكافة فصائله، في إتلاف بوادر الإصلاح الديني، والتي أوشك أثرها على الانمحاء. فأصبحت استعادة المبادرة مرّة أخرى تبدو كأنها تتطلب جهدا بروموثيوسيا. أثناء هذا السقوط المتسارع استبدلت العديد من التيارات الدينية معركة البناء الحضاري بمعركة تغيير السلطة، أو بالأحرى تغيير الحاكم، وأحلت تيارات دينية كثيرة شعار العودة إلى الدين محل مطلب تجديد الدين، وقصرت تيارات دينية أخرى جهدها على مسألة فلسطين أو وحدة المسلمين أو عودة الخلافة كأولى الأولويات بعيدا عن معارك تغيير الأذهان. وفي المقابل، ركزت تيارات أخرى علمانية كثيرة على مسائل الإصلاح السياسي وحتى مسائل الإصلاح الزراعي على حساب مسائل الإصلاح الديني. وبهذا المعنى تكالبت على الإصلاح الديني كافة التيارات الرئيسية بكل خلفياتها المتعارضة، وأحالته إلى الهامش، فكان الثمن انحطاطا مضاعفا.

غير أن فصائل ما يسمى بالصحوة قد لعبت الدّور المحوري في إجهاض ممكنات الإصلاح الديني لما لها من قدرة على انتحال صفة الدفاع عن “دين الله”، فقد زايدت على الجميع بشعار “الإسلام هو الحل”، وجعلت الإسلام محصوراً في جانب من تراثه وجزء من موروثه، وبترت منه كل التراث الفلسفي والكلامي والأدبي والشعري والصوفي والموسيقي، واكتفت منه ببضع صفحات –حتى قراءتها ليست ضرورية- ثم اعتبرته المرجع الكامل للأمة، بحيث لا يعتريه عـوز ولا خلل. واستغلت انقطـاع الـذاكرة التاريخية لكي تعيد تأثيث خيال الشعوب، بحيث يبدو القرن الأول للإسلام أعظم القرون، مع حجب العشرات من الحروب الأهلية والفتن التي قُتل فيها صحابة وتابعون على يد صحابة وتابعين: موقعة الجمل، والفتنة الكبرى، وحرب صفين، وموقعة النّهروان، وحصار الكعبة، ومأساة كربلاء، إلخ، أو اعتبارها مجرّد سقطات بسيطة وسط حضارة لا يلقى فيها المسلم أخاه المسلم إلا باسما مستكينا، يشع من وجهه نور الرحمة والغفران. هكذا يزعمون. ثم يضيفون، وعلى افتراض وجود البعض من الفتن “الخفيفة” فالأسلم لنا أن نكف ألسنتنا عنها ولا نخوض فيها بعد أن كفانا الله شرها. وبالجملة لا يحتاج هذا الإسلام الموروث إلى أي إصلاح، فهو صالح في كل الأزمنة وفي كل أحواله، بل إنه بحكم “طبيعته الإلهية” يُعتبر الأداة الأصلح لأجل إصلاح سائر المجالات الأخرى التي قد يطالها الفساد بحكم طبيعتها البشرية.

ولا يعني تجديد الدين -إن كان ولا بدّ- سوى بعثه كما كان في القدم، في أول الزمن، ولا يعني الاجتهاد فيه -إن كان ولا بد- سوى تطبيقه كما كان في العصور الأولى، بكل حذافيره. هكذا إذاً، تحت شعار “الصحوة الإسلامية” نجح الإسلام السياسي في تبديد بوادر الإصلاح الديني. ولعله بهذا النحو قد ينجح في مهمته الأخيرة: قتل روح الإسلام. فهل نترك الإسلام يسقط؟

كاتب مغربي

9