هل تؤثر انعكاسات الحرب في أوكرانيا على الصراع حول الحكم في ليبيا؟

تعكس التحركات الأميركية والغربية عموما في ليبيا مؤخرا تردد صدى المعارك الأوكرانية في هذا البلد الذي يشكو من حالة عدم استقرار منذ الإطاحة بالعقيد معمر القذافي حيث باتت المواجهة طاحنة هناك أيضا بين روسيا والولايات المتحدة وسط صراع على السلطة بين رئيس الحكومة المنتهية ولايتها عبدالحميد الدبيبة ورئيس الحكومة الجديد فتحي باشاغا.
تواجه الأزمة الليبية مؤخرا منعطفات حاسمة خلال المرحلة المقبلة على وقع تناقضات الداخل وصراعات المنطقة والعالم وفي مقدّمتها الحرب الروسية في أوكرانيا.
وكشف التدخل الروسي في أوكرانيا عن بوادر حرب باردة جديدة سيكون لها تأثيرها البالغ على ليبيا التي تواجه تجاذبات حادة حول مستويات النفوذ الخارجي داخلها ولاسيما من قبل موسكو وواشنطن والاتحاد الأوروبي.
المبعوث الأممي
من مجلس الأمن، ظهرت بوادر الصراع، عندما جددت روسيا مسعاها لإنهاء مهام البعثة الأممية في طرابلس، قبيل أسابيع قليلة من بدء النقاش حول تمديد فترة ولايتها وتعيين رئيس جديد لها، وشددت على رفضها تمكين الدبلوماسية الأميركية المخضرمة ستيفاني ويليامز من شرعية دولية تتجاوز مهمتها كمستشارة خاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا.
الأوضاع في أوكرانيا تلقي بظلالها على الأزمة الليبية، وهي تهدد بالمزيد من تعميق الفجوة بين أطراف النزاع القائم
ويرى المراقبون أن الموقف الروسي ليس جديدا، حيث ترفض موسكو هيمنة الجانبين الأميركي والبريطاني على البعثة الأممية، وفي ديسمبر الماضي نقلت مجلة “فورين بوليسي” عن مصادرها الخاصة، أن روسيا منعت تعيين البريطاني نيكولاس كاي مبعوثا أممياً خاصاً إلى ليبيا خلفاً للمبعوث الأممي المستقيل يان كوبيتش.
وأضافت أن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فكّر في احتمال تعيين ويليامز كممثلة خاصة، إلّا أنّ دبلوماسيين توقّعوا أنها ستُثير استفزاز روسيا التي اعترضت على تمديد تفويضها كرئيسة للبعثة بالإنابة في وقت سابق.
كما منعت روسيا تعيين الدبلوماسي الأميركي، ريتشارد ويلكوكس، الذي كان يعمل في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، وهو ما زاد من تعقيد الوضع أمام واشنطن وحلفائها الساعين لتكريس نفوذهم في الساعة الليبية.
وعندما اتجهت ويليامز إلى موسكو في يناير الماضي لعرض مشروعها الجديد لبلورة ما تصفه بالحل السياسي، أبلغها نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي فيرشينين عدم قبول فرض حلول خارجية جاهزة على الليبيين، بالإضافة إلى احترام العملية السياسية الشاملة التي يقودها الليبيون ويمتلكونها.
وكانت التجاذبات قد بلغت مداها في نوفمبر وديسمبر الماضيين، عندما سعت موسكو لفرض السماح لأنصار النظام السابق بخوض سباق الانتخابات بما فيها الاستحقاق الرئاسي، وقامت قوات موالية لها بتأمين خروج سيف الإسلام القذافي من مخبئه للتقدم بملف ترشحه أمام كاميرات التلفزيون في مدينة سبها، عاصمة الإقليم الجنوبي، وهو ما أثار حفيظة واشنطن التي ضغطت من أجل تأجيل الانتخابات حتى لا ترى معمر القذافي يعود في صورة ابنه إلى منصة الحكم.
مع بداية التدخل الروسي في أوكرانيا في الرابع والعشرين من فبراير الماضي، كان واضحا أن هناك مواجهة طاحنة بين موسكو والدول الغربية وعلى رأسها واشنطن ستنعكس على الأوضاع في ليبيا ولاسيما مع سعي حكومة عبدالحميد الدبيبة المنتهية ولايتها لنيل رضا الولايات المتحدة في صراعه على السلطة مع مراكز التأثير السياسي والعسكري والتشريعي في المنطقة الشرقية التي ترتبط بعلاقات جيدة مع الروس.
مع بداية التدخل الروسي في أوكرانيا كان واضحا أن هناك مواجهة طاحنة بين موسكو والدول الغربية على الأوضاع في ليبيا، لاسيما مع سعي الدبيبة لنيْل رضا الولايات المتحدة
ومنذ الساعات الأولى أدانت وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش بشدة الهجوم العسكري الروسي على أوكرانيا، واعتبرته “انتهاكا للقانون الدولي”، وقالت في تغريدة لها على تويتر “ندين وبشدة ما حدث في جمهورية أوكرانيا، من هجوم عسكري شنّته روسيا، الذي يعد انتهاكا للقانون الدولي”، وقد تبين لاحقا أن الأمر لم يكن عفويا ولا اعتباطيا، وإنما ينطلق من خلفيات عدة ترتبط بمصالح متعددة الأوجه والأبعاد والمرتكزات.
وعندما منح مجلس النواب الليبي في الأول من مارس الماضي الثقة لحكومة الاستقرار برئاسة فتحي باشاغا، كانت روسيا الدولة الوحيدة التي رحّبت بها، وأكدت أنها على استعداد للتعاون معها، للمضي في تسوية سياسية شاملة في ليبيا.
ومباشرة، حاولت الحكومة المنتهية ولايتها وحلفاؤها في الداخل والخارج استغلال البيان، في الترويج لتبعيتها لواشنطن مقابل التشكيك في توجهات باشاغا بصفته يحظى بثقة مجلس النواب وبدعم قيادة الجيش، وتم عقد الكثير من الجلسات في ديوان مجلس الوزراء للتخطيط من أجل الاستفادة من الموقف الروسي في تشويه صورة الحكومة الشرعية الجديدة التي تحرك رئيسها لإبراء ذمته من خلال لقائه بسفير أوكرانيا وتغريدة عبر حسابه الرسمي على “تويتر” مؤكدا دعم الشعب الليبي للشعب الأوكراني فيما وصفه بكفاحه من أجل الحرية ووقوف حكومته إلى جانب أوكرانيا.
توسّعت الحملة التي تقودها الحكومة المنتهية ولايتها والتي تجد غطاء إعلاميا إقليميا ودوليا برعاية من الإخوان، ضد القوى المعارضة لبقائها في السلطة، وعلى رأسها قيادة الجيش، ونجحت في تحقيق اختراق مهم عبر الترويج لإشاعة ساذجة على موقع للمخابرات الرئيسية بوزارة الدفاع الأوكرانية، حيث ادعت وجود معلومات مؤكدة تفيد بتدريب روسيا لمرتزقة من ليبيا، للانخراط في الأعمال العدائية في أوكرانيا.
ولتكتمل الصورة قالت إن موسكو ستدفع للمرتزقة شهرياً ما بين 300 و600 دولار أميركيا، مع التركيز على أن تلك العناصر موالية للمشير خليفة حفتر، الذي يعتبر صديقا لموسكو.
إمدادات الطاقة
وبحسب محللين ليبيين، فإن تلك الإشاعات التي كانت جزءا من حرب الدعاية كانت تستهدف خلط الأوراق في ليبيا، وتقسيمها من جديد وفق التحالفات الخارجية من خلال تقديم الغرب على أنه حليف واشنطن وحلفائها والشرق على أنه حليف روسيا.
ويضيف المحللون أنه وللتأكيد على ذلك، تم الترويج لشائعة أخرى مفادها أن حفتر اتجه إلى موسكو لإبداء مساندته للقيادة الروسية في حربها ضد أوكرانيا، إذ نقلت وسائل إعلام دولية بينها قناة “الحرة” الأميركية عن وزارة الدفاع الأوكرانية قولها إن “حفتر تعهد خلال زيارته إلى موسكو بإرسال متطوعين ليبيين إلى أوكرانيا للقتال لصالح روسيا”.
وكان اللواء أحمد المسماري المتحدث باسم القيادة العامة للجيش نفى صحة هذه المزاعم.
يرى متابعون للشؤون الليبية أن الإسلام السياسي المسيطر على المنطقة الغربية عرف كيف يستغل الصراع الروسي – الأوكراني ضمن سياقات ثأر تاريخي وعقائدي مع موسكو يعود إلى حرب أفغانستان الأولى وحروب الشيشان وصولا إلى الحرب في سوريا والى علاقات الروس مع مجلس النواب وقوات الجيش الليبي، مرورا بمواقف موسكو من الإسلام السياسي، وجميعها تؤكد أن الإسلاميين يعتبرون أنفسهم جزءا من التحالف الغربي، وهم يعتقدون أن موسكو كانت ضد مشروعهم عكس ما تبديه واشنطن ولندن مثلا من مساندة واسعة لهم.
وسارعت الولايات المتحدة بمحاولة بسط هيمنتها على ليبيا في سياق تنافسها مع روسيا، وذلك بالإعلان عن استراتيجية مثيرة للجد، حيث أكد وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، الجمعة، أن بلاده تعمل على تعزيز الاستقرار ومنع الصراع في ليبيا، وقال إنها ستنفذ مع ليبيا ودول أخرى “الاستراتيجية العشرية لمنع الصراعات وتعزيز الاستقرار” وذلك من أجل “بناء القدرة على الصمود”.
وبينما كانت ردود الفعل الرسمية جدّ محتشمة، يشهد الشارع الليبي حالة انقسام بين وجهات النظر المتناقضة والمختلفة حول الموقف الأميركي، ولاسيما في ظل عدم وجود إرادة حقيقية لتجاوز مخلفات سنوات الحرب في البلاد.
ويرى مراقبون أن ضم ليبيا إلى الدول المستهدفة من الاستراتيجية العشرية الأميركية يطرح الكثير من الأسئلة حول رؤية واشنطن للمستقبل، وما إذا كانت هناك تحديات حقيقية تتعلق بالأمن والاستقرار في البلد الغني في شمال أفريقيا الذي لا يزال يمر بأوضاع متردية منذ العام 2011، مشيرين إلى أن الولايات المتحدة تطمح إلى بسط نفوذها الكامل على ليبيا ليس فقط من خلال السعي لتحييد الدور الروسي، ولكن كذلك من خلال إضعاف الدور الأوروبي، بل ترغب في تكريس نموذج يتجاوب مع تطلعاتها للتأثير الفعلي على البيئة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بالحوض الجنوبي للمتوسط في مواجهة الوجود الروسي.
ضم ليبيا إلى الدول المستهدفة من الاستراتيجية العشرية الأميركية يطرح الكثير من الأسئلة حول رؤية واشنطن للمستقبل
وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية، أن الاستراتيجية التي تم الإعلان عنها تستهدف ليبيا بالإضافة إلى هايتي وموزمبيق وبابوا غينيا الجديدة ومجموعة من بلدان غرب أفريقيا الساحلية التي تتألف من بنين وكوت ديفوار وغانا وغينيا وتوغو خلال السنوات العشر القادمة.
وبحسب أوساط ليبية مطلعة، فإن واشنطن أكدت من خلال استراتيجيتها المعلنة عن طبيعة رؤيتها لليبيا خلال المرحلة القادمة، ومدى ما سيكون لها من تأثير عملي على رسم ملامح المرحلة القادمة في البلد الغنيّ بالنفط والغاز والحائز على مساحة تتجاوز2000 كيلومتر على شاطئ المتوسط والذي يعتبر بوابة لأفريقيا وللصحراء الكبرى إلى جانب أنه يمثل جسرا بين المشرق والمغرب العربيين، وهي بذلك تعمل على تكريس دورها في المنطقة في مواجهة أيّ محاولات للتمدد سواء من قبل روسيا أو الصين وبعض الدول الأوروبية الفاعلة، لكن الأمر قد يصطدم بمصالح تلك الدول.
وبحسب البيان الأميركي فإن واشنطن “تحدد جهدا حكوميا كاملا مدته عشر سنوات لتعزيز السلام والاستقرار طويل الأجل من خلال الدبلوماسية المتكاملة والتنمية ومشاركة قطاع الأمن”.
ومما يشير الى طبيعة الاستراتيجية الأميركية هو ما ورد في البيان من أن واشنطن ستتبنى وجهة نظر طويلة الأمد، وستعمل عن كثب مع شركاء محليين متشابهين في التفكير وملتزمين، فيما أشار المبعوث الخاص سفير الولايات المتحدة لدى ليبيا ريتشارد نورلاند، إلى أن استراتيجية بلاده لتعزيز الاستقرار في ليبيا تظهر التزاما أميركيا مستداما يتجاوز المرحلة الحالية موضحا “ونحن نعمل من أجل المصالحة الليبية وإعادة التوحيد، في ظل حكومة منتخبة مسؤولة أمام الليبيين”.
ويحتل ملف الطاقة موقعا مهما في علاقة ليبيا بانعكاسات الحرب الروسية في أوكرانيا، ومن ذلك ما أعلنه وزير التحول البيئي الإيطالي روبرتو سينغولاني، الاثنين، من أن بلاده ستبرم أولى صفقاتها للحصول على المزيد من الغاز من ليبيا وموردين آخرين، ليحلّ محل التدفقات الروسية في الأسابيع المقبلة. وتوقع حصول إيطاليا على 10 مليارات متر مكعب إضافية من الغاز عبر خطوط الأنابيب مع الجزائر وليبيا وأذربيجان هذا العام، فيما أشارت تقارير إلى أن هذا الرقم سيتخطى 20 مليار متر مكعب بحلول العام 2024. وتسعى إيطاليا، التي تستورد نحو 40 في المئة من واردات الغاز من روسيا، لإيجاد بدائل وتنويع مزيج إمداداتها بعد غزو موسكو لأوكرانيا.
وتعمل واشنطن منذ أسابيع على تهدئة الأجواء بين حكومة الدبيبة والمؤسسة الوطنية للنفط حيث تمر العلاقات بين الطرفين بأزمة غير مسبوقة، وهو ما جعل وزير النفط والغاز محمد عون، يدعو الدبيبة إلى إعادة تشكيل مجلس الإدارة الحالي للمؤسسة الوطنية للنفط، نظرا لأن المجلس الحالي “تم تشكيله بصورة مخالفة للقوانين والتشريعات المنشأة للمؤسسة والمنظمة لأعمالها” وفق تقديره.
واتهم الوزير الرئيس الحالي للمؤسسة مصطفى صنع الله بأنه “لا يستجيب لنا ولا يعتد كثيرا بما نطلبه منه”، مشددا على أن له الحق في “طلب تغييره ومجلس إدارته لأن هذا شأن داخلي وعمل سيادي ولا يجب الخضوع لأيّ ضغوط”، وأضاف أن رئيس مجلس الإدارة الحالي للمؤسسة مدعوم من واشنطن ولندن، وهو ما يجمع عليه أغلب المراقبين ممّن يرون أن مواقف صنع الله تحظى بغطاء أممي ودولي.
ومن جانبه ، حذّر نورلاند من أن هذه الفترة تعد أسوأ وقت لمنع إنتاج النفط في ليبيا، وهي الفترة التي تحتاج فيها الأسواق العالمية إلى النفط، حيث يمكن لليبيين الاستفادة من ارتفاع الأسعار، وأوضح في تصريحات صحافية “إن الوضع السياسي المستقطب في ليبيا يثير خطر أن تحاول القوى السياسية المتنافسة السيطرة على عائدات النفط، ونسعى لإنشاء آلية لإدارة عائدات النفط حتى يتم التوصل إلى اتفاق بشأن القضايا السياسية الأوسع، بالعمل مع شركائنا في مجموعة العمل الاقتصادية لعملية برلين، مع الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ومصر”.
وشهدت الأيام الأخيرة حركة نشطة سواء في ليبيا أو في واشنطن والعواصم الأوروبية بهدف نزع فتيل المواجهة، وتشجيع الليبيين على الرفع من مستويات الإنتاج للمساعدة على تعويض النفط الروسي، لكن مسؤولين محليين يقولون إنه لا يمكن أن يتجاوز 200 ألف برميل في كل الحالات بسبب الآليات والإمكانيات المتاحة.
وفي المحصلة، فإن الأوضاع في أوكرانيا، تلقي بظلالها على الأزمة الليبية، وهي تهدد بالمزيد من تعميق الفجوة بين أطراف النزاع القائم، ولاسيما في ظل احتدام الحرب الباردة من جديدة والتي ستكون ليبيا واحدة من أهم ساحاتها التنافسية.