هل الطريق سالك لعودة العراق إلى أهله

ما حصل في جلسة البرلمان العراقي الأولى الأحد التاسع من يناير بعد ثلاثة أشهر من الانتخابات أقرب إلى مسرح الكوميديا الحزينة منه إلى تقاليد العمل البرلماني.
المتابعون من سياسيين عراقيين داخل وخارج العملية السياسية وكتّاب المقالات والمحللون على المئات من الفضائيات والجالسون في بيوتهم باحثون عن فيلم أو مسرحية تقتل ملل أوقاتهم الطويلة وحدهم من اهتموا بتفصيلات ما حصل داخل قبة البرلمان العراقي، فعموم أبناء شعب العراق غير مكترثين بهذه التفصيلات المُملّة، فالسيناريو لم تتغير أركانه منذ عام 2005 وإلى حد الآن.
فولكلور المشهد مختلف هذه المرّة في رموزه ودلالاته؛ النواب الصدريون ارتدوا الأكفان اعتزازا بتقاليد مرجع والد زعيمهم الصدر حين كان يعتلي منبر خطبة الجمعة متوشحا بقماش أبيض يرمز إلى كفن الاستشهاد من أجل الحق رغم أن دلالات هذا اللون الإنسانية ترمز إلى السلام.
ممثلو الحراك الشعبي وصلوا إلى قاعة البرلمان بعربات “التُكتُك” التي اشتهر بها ميدان التحرير ببغداد خلال تظاهرات ومسيرات ثورة أكتوبر عام 2019.
أحد النواب الجدد آثر الحضور لقاعة البرلمان بالزي الشعبي العراقي “الدشداشة” في تعبير منه عن شعبيته.
نتائج انتخابات العاشر من أكتوبر 2021 لم تكن مريحة للقوى الولائية وميليشياتها المسلحة ولا للأب الروحي علي خامنئي الذي فوجئ بأن حساب البيدر لم يكن كحساب الحقل. كانت التقارير التي وصلته عن طريق مستشاريه، الذين لم يتمكنوا من تغطية مكانة فقيدهم الجنرال قاسم سليماني، تقول إن المرحلة الانتخابية لعام 2021، رغم ضغوط ثورة الشباب، ستفرز فوزا ساحقا لقوى الميليشيات السياسية بعد ترتيبات لوجستية، كاستبدال بدلات بعض عساكرهم الذين دخلوا المعركة الانتخابية بالأفندية وعرض قوائم حملت عناوين وأسماء لا علاقة لها بدلالاتها الحقيقية، والمسافة الزمنية للوصول إلى مرحلة قيادة الحرس الثوري العراقي أصبحت على الأبواب.
الأهم هو صمود الصدر بوجه الكارهين للوطن، العراق، وأن ينفتح كنافذة للعراقيين على تخطي كارثتهم الكبرى في خضوعهم لنظام فاسد متخلف إلى نظام وطني بحكومة كفاءات مستقلة
تسعون يوما، ما بين إعلان نتيجة الانتخابات وعقد الجلسة البرلمانية، كشفت عن مغالطة وتكابر وعجز سياسي حقيقي لتلك القيادات حين تُترك لتدبير شؤونها ومواجهة ظرف الهزيمة الانتخابية، وبعضها حكم العراق لثماني سنوات عجاف تضاعفت فيها شحنات الحقد والكراهية الطائفية والفساد وفقر الناس. أولى علامات التخلف والجهل السياسي قيام نوري المالكي بدافع الخلاف الشخصي مع الفائز الغريم مقتدى الصدر بتشكيل حلف “الإطار” الذي تحوّل إلى إيقاع مقابل الأغلبية يتداوله مقدمو برامج الفضائيات، فلا مشروع سياسيا ولا قضية تهم الناس، إنما البحث عن طرق للمماحكة ضد كتلة مقتدى الصدر الفائزة بأعلى نسبة رقمية.
الأكثر جهالة التمترس خلف بعض المتظاهرين من جمهور تلك القوى المهزومة في الانتخابات أمام المنطقة الخضراء، في تقليد فاشل لما كان يحشده الصدر من أعداد كبيرة من جمهوره أمام بوابات المنطقة الخضراء التي رمزت في نظر العراقيين إلى بيت قيادة الاحتلال ومكان الفاسدين والعملاء، أعقبتها محاولات تخريب نتائج الانتخابات التي اعتبرت الأقل تزويرا من سابقاتها.
لم تكن لعبة الوقت تمرّ لصالح القوى الولائية داخل البيت الشيعي، السبب الأول هو أن كرة الثلج أخذت تتدحرج لصالح التزام الصدر بشعاراته الثورية الشعبية بعد فوزه الانتخابي، فقد اكتشف أن العراقيين من خارج جمهوره الخاص، رغم خوفهم من احتمالات تغيّر مواقفه، أخذوا يتفاعلون مع تلك الشعارات. الصدر وجد نفسه وسط معركة سياسية زادتها قوة ثورة أكتوبر بين الطرف العراقي الشعبي وبين القوى الموالية لخارج العراق.
هكذا هي المواقف، تصبح ذات تأثير سياسي مباشر حين تصدر من رؤوس لا تحرّكها العمالة للخارج، وتحمل القدر البسيط من الوطنية والاستقلالية. العراقيون خلال ظرفهم العصيب لم يطالبوا بأعلى درجات الاستقلالية والوطنية، مطالبهم هي إنهاء دور الميليشيات الولائية وعزل الفاسدين وإحالتهم للقضاء، وهذا ما رفعه الصدر في برنامجه، فيما عجز الفريق الموالي لطهران عن تقديم أي مشروع سياسي.
ما حصل من ذلك الفريق المهزوم تصعيد الشعار الطائفي “الدولة الشيعية تتطلب توافق جميع أحزابها” وعدم السماح بكسر قوانينها، رغم الكوارث التي لحقت بشعب العراق جراء تلك الشعارات. كانوا يعتقدون، وهم على حق، بأن انقسام فريق شيعة السلطة سياسيا وعزل المتورطين أكثر بدماء العراقيين وسرقة أموالهم طوال ثمانية عشر عاما سيكونان مقدّمة للمحاسبة القانونية، وأولى الخطوات لدحر الطائفية ومحاصصتها، وبداية عودة العراق من اختطافه.
ما يهم العراقيين من خلاصة هذه المسرحية ونتائجها المرحلية في تشكيل الجسم الرئاسي والحكومي هو السؤال الجوهري: هل ستكون المرحلة السياسية الجديدة بداية الخطوات لعودة العراق من اختطافه؟
المتغيرات الجزئية خارج البيت الشيعي تشير إلى تراجع جزئي في زخم الولاء لإيران داخل المكون السنّي، رغم تأثيراته المستمرة لحد اللحظة في اختيارات رئيس البرلمان، حيث فشلت طهران في إزاحة محمد الحلبوسي وتم التجديد له بسبب النجاح الأولي لتحالف الصدر – الكرد – السنة. لعبت قوى الإطار التنسيقي على بعض المتعاونين المتاجرين من الزعماء السنة، وظهر ذلك بشكل رخيص في مسرحية رئيس البرلمان الأكثر سنا حين قام بمسرحية لا تليق بسنه وانتسابه الطائفي لكسر نظامية الجلسة الأولى للبرلمان، وإغرائه بترشيحه رئيسا للبرلمان، رغم فشله حين كان رئيسا للبرلمان عام 2006، كذلك في انسلاخ أكثر من عشرة برلمانيين من كتلة خميس الخنجر السنيّة وذهابهم لإطار نوري المالكي الشيعي الولائي.
رموز القيادات الكردية لديهم مشاكلهم أيضا، الاتحاد الوطني يواجه مشكلات التشرذم بعد رحيل زعيمهم جلال الطالباني. هناك إصرار لدى القيادة التاريخية البرزانية على أخذ منصب رئاسة الجمهورية وعدم التجديد لبرهم صالح. يبدو أن قيادة مسعود البارزاني قد اختارت أخيرا جبهة الأغلبية بقيادة الصدر، هذا الاصطفاف سيعزز من نجاح هذا التحالف الجديد وعزل قوى الإطار التنسيقي، التي من المتوقع قبولها بالحد الأدنى من المكاسب الحكومية التي ستمنح لهم.
ستظل القصة المركزية والعقدة هي في اختيار رئيس الوزراء، بعد أن حوّل قادة العملية السياسية التقليد الخائب بالمحاصصة، بأن يكون رئيس الوزراء شيعيا مقابل أن يكون السني رئيسا للبرلمان، والكردي رئيسا للجمهورية. تقليد هو علامة سيئة على حكم طائفي متخلف. إنه إيقاع ممل وسيء أن يختار رئيس وزراء توافقي داخل البيت الشيعي المهلهل.
ما يهم العراقيين من خلاصة هذه المسرحية ونتائجها المرحلية في تشكيل الجسم الرئاسي والحكومي هو السؤال الجوهري: هل ستكون المرحلة السياسية الجديدة بداية الخطوات لعودة العراق من اختطافه، وإقامة دولته المستقلة؟ لا شك أنها مرحلة صعبة لا تسمح بها إيران لأن ذلك يعني إجبارها على تخليها عن الكثير من المنافع والمصالح.
الأهم هو صمود الصدر بوجه الكارهين للوطن، العراق، وأن ينفتح كنافذة للعراقيين على تخطي كارثتهم الكبرى في خضوعهم لنظام فاسد متخلف إلى نظام وطني بحكومة كفاءات مستقلة.