هزّتهم الكلمة!

لماذا هي مخيفة إلى حد فائق الجنون والخطورة؟ لماذا تُعتبر مبررا للكثيرين ليقتلوا ويبطشوا بسببها؟ لماذا كل هذا العداء لأصحابها وقائليها؟ لماذا نرفضها ونخشاها ونقتلها؟ لماذا يُسجن ويُعذَّب أصحابها ومبدعوها؟ ولماذا كل هذه المهالك التي تعتري طريق الكلمة وقائل الكلمة؟ لماذا كل هذا يجري للكلمة وقائلها وكاتبها ومبدعها ومصورها؟ لماذا كل هذا الرعب من الكلمة؟
صُعقت وأنا أقرأ الصحف بخبر محاولة اغتيال الكاتب البريطاني سلمان رشدي، وشاهدت مقطعا وصورا ظهر فيها وهو مُلقى على ظهره في حالة صعبة بل وخطيرة جدا، فقد تعرض لطعنات كثيرة في العنق والرأس.
قرأت عدة مقالات عن هذا الخبر محاولا معرفة الدوافع وهوية الجاني كذلك. ووجدت في مقالة نُشرت في موقع “فرانس24” حقيقة دافع الجاني، تقول المقالة “في عام 1989، أصدر مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني فتوى بهدر دمه بسبب روايته ‘آيات شيطانية’. وكانت إيران قد أكدت عام 1998 أن الفتوى لن تطبق. إلا أن المرشد الأعلى لجمهورية إيران الإسلامية آية الله علي خامنئي عاد ليؤكد الفتوى من جديد عام 2005”.
بعد أن قرأت التفاصيل وتعمقت في مقالات كثيرة كُتبت عن سلمان رشدي تأكدت أن دافع الجاني كان حرصه على نيل “شرف طاعة سيديه الخميني وخامنئي” في تنفيذ الفتوى التي صدرت عنهما بحق الكاتب قبل أكثر من ثلاثين عاما!
كان الجاني حاسما في عمليته الإرهابية، إلا أن الأقدار كان لها تصوُّر آخر. وظهرت حاكمة ولاية نيويورك لتقول “إن رشدي على قيد الحياة” ووصفته بأنه “فرد أمضى عقودا يواجه السلطة بالحقيقة”. وتابعت “ندين كل أشكال العنف، ونريد أن يشعر الناس أنهم أحرار في قول الحقيقة وكتابتها”.
للأسف الشديد نجح نقاد الإسلام في إثبات حقيقة عنفه وعنف تابعيه، لم يكن ينبغي لنا الاعتراض حينما وُصف ديننا بدين العنف الغارق في بحر أزماته، فكل ذلك كان صحيحا
هذا الحدث المروّع جعلني أفكر كإنسان وناشط حقوقي وكاتب مدافع عن حرية التعبير وكل حقوق الإنسان، بإمكانية تعرض كل إنسان وفي أي لحظة لعملية إرهابية لم تخطر له حتى في الأحلام، لمجرد ممارسته حقه في حرية التعبير والإبداع.
فنحن نعيش، خاصة كمسلمين، في قوقعة فكرية غير قابلة للانكسار، قوقعة مليئة بالتعصب في طرح قضايا الدين، والتطرّف في التعامل مع مخالفي ونقاد هذا الدين. يُصاب المسلم بشيء من الذعر والارتباك إذا ما قرأ شيئا ليس مطابقا لما لقن له وتعلمه، فيثور ويغضب وينفجر كثور هائج يُناطح كل من ليس مثله، وطبعا مستخدما العنف خلال هيجانه.
كتب رشدي رواية أسماها “آيات شيطانية” وأذكر أني قرأتها قديما، ولم أعد أذكر منها سوى الاسم وبعض أجزائها. قرأتها ولا أذكر، حينها، أن إيماني تزعزع أو انطفأ بسبب منها. بل، كغيرها من الكتب أنهيتها وذهبت لكتاب آخر.. لم أشعر لا بالإهانة ولا بالازدراء في كلماته. وحتى لو وجدت فيها ما يمس الدين والقرآن أو يمسني أنا شخصيا، ما كنت لأفعل غير الرد عليها بما هو مناسب وعقلاني في إطار حرية الفكر والتعبير. أما أن أنخرط أو أؤيد أي عمل عنيف ضد خصم يخالفني المعتقد أو لسبب شخصي، فهذا ليس إلا إرهابا للناس. الفكر يُرد عليه بالفكر لا بالسكين أو البندقية، لأن هاتين الوسيلتين ليستا إلا وسائل الضعفاء والجبناء والإرهابيين.
عجيب كيف لأمة تعدادها يقارب المليارين (مسلم) تُخيفها كلمة هنا أو كتاب هناك. من يشاهد تعليقات المسلمين على الجريمة التي وقعت سوف يشعر أن كل ما يقوله منتقدوهم صحيح ودقيق. فالعنف قاسم مشترك بينهم وهو ما يوحدهم ويجمعهم.. العنف ضد الغير وبين أنفسهم. فحتى المسلمين الذين يُبدون انفتاحا تجاه الآخر، لا يسلمون من تطرف وعنف إخوانهم في الإسلام. العنف أصبح عقيدة أزلية – أبدية تلازم المسلم العادي. وهذا ليس إلا دليلا على أزمة الدين بنسخه الحالية ونماذجه الحية.
هزّتهم كلمة. أمة الملياري مسلم هزتها وزلزلتها كلمة! ومن يقرأ تعليقاتهم على الحادثة سيجد حقيقة ما أقول. فمعظمهم يتحدث عن رشدي ليس باعتباره ضحية، بل كمجرم واجب نحره وحرقه. يتحدث عن الضحية ليس كإنسان بل كشيء لا قيمة له، فما دام كافرا بدينهم ومعتقداتهم فهو مستباح الدم والكرامة. ويصبح قتله جائزا وسباقا تتنافس عليه زمرة التابعين لأصحاب اللحى والعمائم.
من اختلف معه كان واجبا عليه الرد بالفكر والمنطق، لا اللجوء للسلاح والسكاكين، فتلك حيلة الجبان والمهزوم
المسلمون يُعانون، هذه حقيقة.. يعانون من أزمة تدينهم وتمثلاته في الحياة والمجتمع. هناك صراعات نفسية كثيرة لدى معتنقي هذا الدين، معظمها عائد لكونه لم يعد مقنعا ولا صالحا في كثير من جوانبه ونصوصه مع قيم ومتطلبات هذا العصر وما فيه من حقوق إنسانية لم تكن قد أُقرت في زمن مجيء رسالة النبي الأمين محمد. وبسبب تلك الصراعات النفسية وعقدة الذنب المصاحبة لها قد يلجأ المسلم لعمليات متطرفة وإرهابية، معتبرا إياها الوسيلة الأمثل لإزالة تلك العقد والصراعات “ووساوس الشيطان”.
نعم هذه حقائق يجب أن نعترف بها وأن نواجهها.. ديننا متأزم وغارق في برك الأزمات والكوارث، وقولي هذا ليس انتقاصا ولا تقليلا من قيمته، وإنما دعوة صادقة نابعة من احترامي وتعظيمي له، وذلك بالعمل على إصلاحه وتكييفه مع ما يحتاجه إنسانه وأتباعه. فالإنسان غاية الدين لا العكس.. فإذا لم ينبت لي ديني جناحي سلام وحرية وكرامة وفردانية، فما الغرض وما الفائدة منه؟
أن يصيح أحدهم ليقول “ليس الإسلام الذي هو في أزمة، بل ما يضم تحت ظلاله من تيارات ومذاهب وطوائف”، فهذا القول ليس عندي بذي قيمة. إذ أن المشكلة لا تكمن في تلك النحل والطوائف وحسب، بل في الإسلام ككل، وعلى وجه الدقة قراءات آياته ونصوصه. الإشكال آتٍ من هناك، حيث جذور التشوُّه والتطرف.
للأسف الشديد نجح نقاد الإسلام في إثبات حقيقة عنفه وعنف تابعيه، لم يكن ينبغي لنا الاعتراض حينما وُصف ديننا بدين العنف الغارق في بحر أزماته، فكل ذلك كان صحيحا. وكل المحاولات لإثبات حقيقة أن هذا الدين يحث على العنف والإقصاء والترهيب، نجحت اليوم مع محاولة قتل الكاتب البريطاني الذي لم يرتكب جرما سوى أنه مارس حقه في حرية الفكر والتعبير والنقد والإبداع والكتابة.
من اختلف معه كان واجبا عليه الرد بالفكر والمنطق، لا اللجوء للسلاح والسكاكين، فتلك حيلة الجبان والمهزوم.
أتمنى وأدعو الله أن يعجل بشفاء سلمان رشدي وأن ينال المجرم عقوبته التي يستحقها.. أدعو له لأن الله ليس مستبدا يغضب على عباده لمجرد أن عاتبوه وانتقدوه. الله فوق كل شيء وليس كمثله شيء. هو خالق كل شيء وهو مُوجد هذا الوجود بكل ما فيه، وبكل ما نعرفه ونجهله. الله ليس بشرا تُغضبه الانتقادات.. الله هو الله، ليس كمثله شيء، ورحمته وعفوه وسعت كل شيء.