هجمات فرنسا: أوروبا كلها فرنسا مؤجلة تنتظر الاستهداف

تحصين الجاليات المسلمة رهان أوروبي ينقصه الحزم تجاه تيارات الإسلام السياسي.
الثلاثاء 2020/11/03
أوروبا مهيئة لاستنساخ السيناريو الفرنسي

يعكس الاستنفار الأمني الأوروبي على إثر الهجمات الإرهابية التي عصفت بفرنسا مؤخرا مخاوف أجهزة الاستخبارات من توسع نطاق الهجمات ليشمل بقية دول التكتل التي تتقاسم مع باريس القيم الديمقراطية العلمانية. وتدرك البلدان الأوروبية جيدا التأثير الكبير الذي تتمتع به جماعات الإسلام السياسي على الجاليات المسلمة وهو ما يسهل عمليات توظيفها في أعمال انتقامية تتمازج فيها الأبعاد الدينية مع الأجندات السياسية.

باريس - تتوجس الدول الأوروبية من اتساع نطاق الهجمات الإرهابية التي عصفت بفرنسا لتصل أراضيها أيضا، في وقت يؤكد فيها خبراء أمنيون أن أي دولة أوروبية هي فرنسا مؤجلة من ناحية الاستهداف.

وكما تتقاسم دول الاتحاد الأوروبي نفس القيم العلمانية تتقاسم أيضا بدرجة متفاوتة توزع الجاليات المسلمة على أراضيها وهو ما يجعلها ليست بمنأى عما حدث في باريس ردّا على نشر المدرس صامويل باتي رسوما كاريكاتيرية مسيئة للنبي محمد خلال درس عن حرية التعبير.

وتعاني الجاليات المسلمة في مختلف الدول الأوروبية تقريبا من فشل عدد كبير من منتسبيها في الاندماج والتأقلم مع قيم المجتمعات التي يعيشون فيها، ما يجعلهم أكثر عرضة من غيرهم للاختراق من قبل المتشددين الإسلاميين ونشطاء الإسلام السياسي الذين يمتلكون أدوات ناعمة لاستقطاب هذه الشريحة التي تشعر بالتهميش داخل محيطها.

وللهيئات الإسلامية والجمعيات الخيرية التي يديرها نشطاء الإسلام السياسي الدور الأبرز في عمليات استقطاب الشباب المسلم وتغذية العدوانية والتطرف لديهم، مستغلين في ذلك مناخ الحريات الموجود في الغرب.

وعلى إثر نشر هذه الصور المسيئة للنبي محمد (ص) سارعت أغلبية الدول الإسلامية إلى التنديد بمثل هذه الممارسات ووجهت انتقادات شديدة اللهجة للحكومة الفرنسية، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وجد في الحادثة مطية للنفخ على النار وتأجيج الأزمة التي تخدم أجنداته وتصفية حساباته الشخصية مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.

وأعلن ماكرون إثر حادثة ذبح باتي عن إجراءات صارمة في تعقب المتشددين الإسلاميين ونشطاء الإسلام السياسي سوقها أردوغان على أنها استهداف للإسلام في فرنسا، ما استنفر مشاعر المسلمين في أوروبا وحول العالم.

وتضاف هذه الانتقادات الموجهة لخطة ماكرون الذي يريد “تحرير الإسلام في فرنسا من التأثيرات الخارجية” إلى قائمة تطول من الخلافات بين الرئيس الفرنسي ونظيره التركي بدءا من الملف السوري إلى ليبيا وشرق المتوسط وصولا إلى ناغورني قره باغ.

ومثل تحريف أردوغان لتصريحات ماكرون وإخراجها من سياقها كما أكد الرئيس الفرنسي لقناة الجزيرة الإخبارية السبت، هدية لتنظيمات التطرف والإرهاب التي تجيد توظيفها مثل هذه المناكفات في جذب الشباب نحو الأفكار التي تروج لها، ولاسيما ما يتعلق بعداء الغرب للإسلام واستغلال ذلك في إقناع الشباب المسلم في أوروبا من أبناء المسلمين المهاجرين بارتكاب جرائم إرهابية يدفع ثمنها ويتحمل عواقبها الجميع، من مسلمين وغير مسلمين.

وأدركت الدول الأوروبية وخصوصا فرنسا التي توجد على أراضيها أكبر جالية مسلمة في أوروبا أن مواجهة التطرف الإسلامي يبدأ أساسا بالتحكم في الخطاب الديني الموجه للمسلمين عبر المؤسسات المتواجدة على أراضيها كالهيئات الإسلامية والمساجد التابعة لها والمنظمات الخيرية المتفرعة عنها.

وبعد أن اكتشفت مناورات تنظيمات الإسلام السياسي ومناورتها الفكرية والأيديولوجية وضعت الدول الأوروبية على غرار فرنسا والنمسا وألمانيا خططا لفك ارتباط الجاليات المسلمة بالتأثيرات التي تقودها هذه الجماعات عبر الهيئات التابعة لها.

معركة الاستقطاب

ديدييه ليسشي: نقص رجال الدين المثقفين يعزز نزعات تتعارض مع مكاسبنا
ديدييه ليسشي: نقص رجال الدين المثقفين يعزز نزعات تتعارض مع مكاسبنا

تسرّع السلطات والهيئات الإسلامية في فرنسا العمل حول مشروع لتدريب أئمة على الطريقة الفرنسية، وذلك لوقف استقدام أئمة من الخارج وإضفاء استقلالية مالية وفكرية على تدريب المسؤولين الروحيين للجالية.

وقال الرئيس الفرنسي أثناء عرضه في 2 أكتوبر الماضي مشروع قانون حول الانعزالية يهدف خاصة إلى “هيكلة الإسلام” في فرنسا، “سنمارس عليهم ضغطا هائلا… الفشل غير مسموح”.

يجب على المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، المحاور الرئيسي للسلطات، أن يؤسس خلال ستة أشهر مسار “تأهيل تدريب الأئمة” وتنظيم “شهادات اعتماد” لهم ووضع “ميثاق يؤدي عدم احترامه إلى العزل”.

ونوقش الأمر عدة مرات لكنه لم يتحقق أبدا. ويهدف هذا المشروع إلى تحقيق رغبة السلطات في إنهاء نشاط 300 إمام في فرنسا أغلبهم “مبتعثين” من تركيا والجزائر. ونظرا لعدم وجود هيئة تمثلهم، من الصعب الحسم في عدد الأئمة الناشطين حاليا في 2500 مسجد في فرنسا حيث يعتبر الإسلام الديانة الثانية.

وتوجد أقل من عشرة معاهد تدريب في فرنسا، يرتبط كل منها بعدد من المساجد، بعضها مقرب من تركيا والبعض الأخر من جماعة الإخوان المسلمين. وعدد خريجي هذه المعاهد محدود جدا، حيث يقول عميد مسجد باريس شمس الدين حفيظ “سأكون سعيدا إن وجدت بين 15 و20 إماماً مدرّبين خلال ثلاثة أعوام”.

وعدّل حفيظ التدريب في معهد الغزالي المرتبط بالمسجد الذي يشرف عليه وقلّصه بعام، كما أسس فروعا جديدة (في ليل، وقريبا في مرسيليا).

أما المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية المرتبط تاريخيا بجماعة الإخوان المسلمين، فيقول إنه درّب خلال ثمانية أعوام نحو 30 مسؤولا دينيا (من الأئمة والمرشدين وغير ذلك).

ويوضح رئيس المعهد الأوروبي لعلوم الأديان التابع للمدرسة التطبيقية للدراسات العليا ديدييه ليسشي أن “قليلا من الأئمة لهم تدريب جامعي مع انفتاح على العلوم الاجتماعيّة”. واعتبر أن “نقص رجال الدين المثقفين” يعزز في فرنسا “نزعة محافظة تتعارض مع مكاسبنا الاجتماعيّة”.

واعتبر عميد مسجد عثمان في مدينة فيلوربان (شمال) عزالدين قاسي في مقالة حديثة نشرتها صحيفة لوموند أن نقص التدريب الجامعي يجعل عددا كبيرا من الأئمة “عاجزين عن إنتاج فكر ديني يتماشى مع السياق والواقع الفرنسيين”.

ولم تكن الخطة الفرنسية لمواجهة الانفصالية الإسلاموية التي أعاد إحياءها الرئيس الفرنسي عقب حادثة ذبح المدرس باتي بمعزل عن سياقات أوروبية أخرى، حيث قامت النمسا بطرد العشرات من الأئمة الأتراك وإغلاق سبعة مساجد في سنة 2018.

ومنذ عام 2015 يحظر قانون خاص بالإسلام في النمسا التمويل الخارجي. وينص هذا القانون أيضاً على أنه تجب على المؤسسة الدينية المُعترف بها بحسب القانون العام تغطية مصاريف الخدمات الدينية من مصادر تمويل محلية.

ويمتلك اتحاد “أتيب” التابع لهيئة الشؤون الإسلامية التركية 64 مقرا ومسجدا في عموم النمسا، بينها 5 مقرات كبيرة في فيينا، فضلا عن 100 ألف شخص ينضوون تحته.

وحسب صحيفة كورير النمساوية تعمل “أتيب” كمظلة تضم منظمات وأندية ثقافية ومساجد في الأراضي النمساوية، وتهدف إلى ترسيخ الثقافة ونمط الحياة التركي على المجتمع، ونشر أفكارها الدينية المتطرفة وخلق مجتمعات موازية.

ووفق الصحيفة، فإن “أتيب” تعد ذراع أردوغان الطولى في النمسا، وتتلقى تمويلا لأنشطتها ورواتب أئمتها من مديرية الشؤون الدينية التركية (حكومية)، وتخضع لتأثير مباشر من النظام التركي وحزب العدالة والتنمية.

هجمات فرنسا سلطت الضوء على التحديات التي تواجهها الحكومات الأوروبية في حماية مواطنيها من الحملات الدعائية المتطرفة التي يبدو أنها تزداد قوة مع كل عملية قتل مروعة تشهدها القارة
هجمات فرنسا سلطت الضوء على التحديات التي تواجهها الحكومات الأوروبية في حماية مواطنيها من الحملات الدعائية المتطرفة التي يبدو أنها تزداد قوة مع كل عملية قتل مروعة تشهدها القارة

ويتجلى الاستخدام السياسي للأئمة الأتراك في أوروبا، في ترويج خطاب سياسي يستدعي الإرث العثماني القديم، ومحاولة إحياء مظاهرها في ثوب جديد، خصوصا أن أردوغان يرى أن هناك عدداً من دول أوروبا تُعد امتداداً للتواجد التاريخي العثماني في أوروبا في الماضي.

ويصعب النظر إلى الرفض الفرنسي والنمساوي للأئمة الأتراك، بعيداً عن توجهات السلطة في تركيا لأسلمة المجتمع، كما لا يمكن فصل هذه الخطوات عن توجهات الاتحاد الأوروبي الذي قضى بتجميد مفاوضات عضوية تركيا في ظل تماهي أردوغان مع التيارات المعادية للعلمانية.

وتبدي أوروبا قلقاً بشأن دعم أنقرة للكيانات الدينية المتطرفة في عدد كبير من دول المنطقة، من خلال توفير الاستضافة والدعم المالي والمنصات الإعلامية، حيث يقترن الرفض الفرنسي للأئمة الأتراك بتوجهات دول أوروبية تتصاعد شكوكها حيال دور سياسي مشبوه للأئمة الأتراك مثل ألمانيا التي اتهم عدد من أحزابها السياسية الأئمة الأتراك على أراضيها بالـ”الجواسيس” الذين يعملون لحساب النظام في تركيا.

وكانت صحيفة دير شبيغل الألمانية، واسعة الانتشار، أكدت في تقرير منشور لها مؤخراً أن الرئيس أردوغان يستخدم الأئمة كجزء مهم من شبكات التحكم في الأتراك المغتربين من أجل أهدافه الخاصة.

ويعود التعاطي السلبي مع الأئمة الأتراك إلى شكوك أوروبية في الخطاب المؤدلج للدعاة الأتراك، فضلاً عن حرص أوروبي على ضمان تلبية متطلبات الاندماج في المُجتمعات الغربية، وضمان التنوع الثقافي بجوار الحفاظ على مبادئها العلمانية.

معركة موازية

استغلت أغلب الجماعات الإرهابية، المنصات الاجتماعية لتستخدمها في توسيع دائرة انتشارها، واعتمدت عليها بشكل أساسي كمنبر في عمليات ما يسمى بـ«التجنيد» وجذب أصحاب الفكر ذاته، والتحايل على العوائق التي تواجهها، وأصبحت البوق الإعلامي لنشر كل ما يتعلق بعملياتها.

ووفقًا لدراسات غربية فإن أكثر من 80 في المئة من عمليات تجنيد الشباب في صفوف الجماعات الإرهابية تتم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فالتجنيد يعتبر أحد أهم أهداف التنظيمات المتطرفة، خاصةً بين فئة الشباب التي تمثل الغالبية العظمى من مستخدمي هذه المنصات، ويعد موقع فيسبوك من أكثر وسائل التواصل الاجتماعي استخدامًا، إضافة إلى تويتر ويوتيوب وغيرها من المواقع الحيوية، التي تساعدهم بشكل كبير في تنفيذ مآلاتهم، وإدراج أكبر عدد ممكن من الأعضاء بداخل المنتديات المرتبطة بالجماعة الإرهابية.

وسلطت هجمات فرنسا الضوء على التحديات التي تواجهها الحكومات الأوروبية في حماية مواطنيها من الحملات الدعائية المتطرفة التي يبدو أنها تزداد قوة مع كل عملية قتل مروعة تشهدها القارة.

المواجهة لن تكون ممكنة للقضاء على التطرف إلا من خلال التصميم والتنسيق المتواصل بين الدول الأعضاء

ولعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورا كبيرا في حشد غضب العديد من المسلمين على خلفية إعادة نشر رسوم كاريكاتيرية للنبي محمد (ص) ما خلّف تداعيات مأساوية لم يكن بمقدور الأجهزة الأمنية على أعلى مستويات التأهب لمنعها.

وقالت لورنس بايندنر وهي من مؤسسي “جي أو أس بروجيكت” المعنية بمراقبة المضمون المتطرف على الإنترنت “اعتُبرت إعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية إهانة جديدة وكان لديها مفعول في تسريع تطور الأحداث”.

وانتشرت دعوات لمهاجمة أهداف فرنسية انتشار النار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، ما شكّل مفاجأة لأجهزة الاستخبارات التي كانت على علم بأن البلد يواجه في الأساس خطر ما يعرف بهجمات “الذئاب المنفردة” (التي ينفذها أشخاص منفردين) والتي عادة ما يستحيل تقريبا تحديد مخططها قبل تنفيذ العملية.

وقال المدير التنفيذي لمنظمة “مشروع مكافحة التطرف” ديفيد إبسن إن “الارتفاع الأخير في عدد الهجمات الإرهابية في فرنسا أظهر بأننا بحاجة الآن، أكثر من أي وقت مضى، للقيام بحملة ضد انتشار المضمون الإرهابي عبر الإنترنت”.

وتعهّدت فرنسا بالفعل بالتحرّك بشكل أقوى ضد المنشورات التي تحض على الكراهية عبر الإنترنت بعد مقتل باتي، إذ نُشر اسم الأستاذ وعنوان مدرسته في إطار الحملة التي استهدفته على وسائل التواصل الاجتماعي. لكن إبسن يشير إلى أن الحكومات تواجه معركة صعبة ما لم تنسّق الجهود مع الشركات التي توفر المنصات التي يستغلها المتطرّفون بهذه السهولة.

وأضاف أن “سهولة الوصول إلى الصور والتسجيلات المصورة بالغة العنف على وسائل التواصل الاجتماعي تعكس فشل شركات التكنولوجيا في الإيفاء بوعودها والتعامل مع انتشار المضمون المتطرف والإرهابي عبر الإنترنت”.

وبإمكان مضمون من هذا النوع أن يكون فعالا بما فيه الكفاية لتحفيز المتلّقين وخصوصا أولئك الذي يسهل اختراقهم أو الأفراد الذين يعانون من مشاكل نفسية.

ويشير خبراء إلى أن الإشادات على الإنترنت بمنفّذي اعتداءات فرنسا، والتي تحمل خطر إلهام آخرين بالسعي لاستنساخها، تكشف بأنه لا يمكن لفرنسا أن تخوض وحدها معركة وسائل التواصل الاجتماعي.

ويقول إبسن “يجب أن يتجسد تحرّك ملموس بشكل أكبر ضد المضمون الإرهابي على الإنترنت في أنحاء الاتحاد الأوروبي”.

ويضيف “لن تكون المواجهة ممكنة، وفي نهاية المطاف القضاء على التطرف عبر الإنترنت إلا من خلال التصميم والتنسيق المتواصل بين الدول الأعضاء”.

12