نيكوس كازانتزاكيس كاتب غيرني
علمني كازانتزاكيس الواجب الثاني الذي ينبغي للإنسان أن يهيئ نفسه له كي ينجو قليلا، أن يعبر الهوة المظلمة إلى النور، كان الواجب الأول هو أن نؤمن بأن جميع ما نراه في الحياة هو محض وهم من صنع أذهاننا وتصوراتنا وألا نصدق ما نشم ونسمع ونرى لأنه من ابتداع عقولنا، فداخل القيود التي تكبلنا يكون العقل هو الملك وليس من قوة أخرى تضارعه في ملكوته، فإذا عرفنا تلك القيود وصارعناها وأخضعناها، نستطيع عندئذ أن نطوّعها لتغدو أدوات لعقولنا.
عندها علينا أن ندرك عبثية اللعبة اللانهائية للحياة، وعندها أيضا سنربط أنفسنا إلى فكرة الضرورة الملزمة فنكتشف أن الكون يدور حولنا من جديد ويتبعنا.
وتتجلى الحياة عبر هذا المفهوم على أنها لعبة صراع بين الموت والحياة وبوسعنا التحكم فيها عبر الانضباط الذي يعتبره كازانتزاكيس أسمى أشكال الفضيلة وهو أهم الميزات التي يجب أن يتحلى بها الـكاتب، ويعترف كازانتزاكيس دوما بأنه كاتب منضبط ولولا انضباطه الصارم ما كان لينجز كل تلك الأعمال، تعلمت منه الانضباط والعمل المنظم كل يوم، واستطعت موازنة الرغبة والقوة كما علمني، فأثمرت جهودي بفضل دأبي.
الواجب الثاني الذي يراه كزانتزاكيس مهما وأساسيا لنعبر الهاوية الفاصلة بين الميلاد والموت هو ألا نعترف بالحدود، وأن ندرك قيمة الألم في صياغة أرواحنا فلا ندع المظاهر تستحوذ علينا، وأن نكابد آلامنا ونعيشها بعمق دون شكوى؛ فالعقل صبور ويجيد المناورة واللعب والمخاتلة، على النقيض من القلب الذي يتعالى ويتوحش ولا يتنازل للمساهمة في لعبة العقل فيندفع بقوة ويمزق أغلال الضرورة.
عندئذ نصبح قادرين على المجالدة فنحفر عميقا لنرى بشرا وطيورا وشجرا وحجرا، ونمضي في الحفر فنشاهد أفكارا وأحلاما ووميضا من الضوء، ولكننا إذا واصلنا الحفر لا نعود نرى شيئا؛ فثمة في أعمق أعماقنا يرقد ليل ثقيل ساكن يماثل الموت وإذا حفرنا أعمق من ذلك واخترقنا الحاجز المظلم سوف نسمع ضجـة وبكاء، رفيف أجنحة مع النحيب، وصوتا يهمس لنا: لا تنتحب، لا تنتحب أيها الإنسان، الأصوات والأجنحة هي قلبك، القلب هو وسيلتنا لمعرفة أنفسنا والعالم لأن العقل مخاتل لعوب، القلب جوهرنا المكافح الذي لا يستسلم ولا يهزم.
ومع ذلك يخبرنا الكتاب الساحر، لا نستطيع إقصاء العقل، فهناك في أعمق أعماقنا صوت مغاير، إنه القوة السادسة، صوت قوي معاند يصرخ بنا: لا تعترف أيها الإنسان بالحدود، دمر الحواجز والعوائق كلها، انكر ما تراه فمعظمه ناتج عن أوهامك، اصرخ، إن الموت غير قادر وغير موجود وواجبك أن تحتل المشهد وتتدخل في مجريات الحوادث، فالألم وتحمل الألم هما واجبنا الثاني.
أما الواجب الثالث فهو الأكثر صعوبة وليس بإمكان الكثيرين اجتياز امتحانه.
العقل المخاتل يكيف نفسه ويتشهى الأعمال البطولية ليغادر محدوديته البشرية، يقف القلب عاجزا لبرهة، وتتعالى فيه صيحات إيروس، يرقص وهو يصلصل بأغلاله متوهما أنها أجنحة ويسقط محفوفا بالمخاوف الإنسانية الكبرى، عند هذا المنعطف يقترح علينا كازانتزاكيس أن نفهم اللحظة المواتية ونتقدم، فالأمل هو الواجب الثالث لعبور الهاوية، ندع القلب والعقل وراءنا لأنهما يقيداننا إلى المحدودية، فالعقل يضع الأشياء في نظام واتساق والقلب يقيدنا إلى الهلع، عندها يغدو المرء سيد بساتين العالم، ينسى الحدود ليحقق المستحيل، هكذا صنع مني هذا الكتاب كائنا مختلفا عما كنته قبل قراءته.
كاتبة من العراق