نيفين الكيلاني وزيرة ثقافة مصرية جديدة تهتم بالتفاصيل في غياب المشروع

القاهرة - ظل من يتولى منصب حقيبة الثقافة في مصر حتى وقت قريب يتحمل الكثير من الضغوط من النخبة والمبدعين، وكان أشبه برأس الحربة في الحكومة الذي تحقق به أهدافها الناعمة، والآن اختلت هذه المسألة فلا المنصب يتعرض صاحبه/صاحبته إلى ضغوط تجبره على تغيير تصرفاته، ولا بات أداة في يد الحكومة يمكن من خلالها التعرف على ماذا تركز، وفي ما تفكر.
فقدت هذه الحقيبة الكثير من أحلام أصحابها والدسم الذي يجعلها تمثل إشكالية أو محط اهتمام من قبل قطاع كبير من المثقفين في مصر، لأن من يشغلها يتم اختياره بطريقة لا تثير أزمات وخلافات، كما كان في السابق. فغالبا ما يكون من الوجوه الهادئة الودودة التي لم تعد تثير حفيظة شريحة المثقفين من ذوي الصوت العالي.
ذهبت وزيرة الثقافة إيناس عبدالدايم عازفة الفلوت التي حرصت على التمسك بموهبتها في العزف على هذه الآلة الدقيقة، وجاءت نيفين الكيلاني راقصة الباليه السابقة لتتولى المنصب ذاته قبل أيام، وهو اتجاه خالف الكثير من الثوابت التي كانت تقوم على أساسها عملية الاختيار وتنحدر من المثقفين ومراكزهم التقليدية، من حيث الإنتاج العام والجدل السياسي، والأفكار المتعددة بعيدا عن الاتفاق والاختلاف معها.
ما يربط بين عبدالدايم والكيلاني لا يتوقف عند حدود النوع والنسوية والتخصص في فنون تحتل مكانة لدى شريحة طفيفة في مصر (الفلوت والباليه)، حيث جاءتا من خارج نطاق الصخب الثقافي، ومن الدائرة الضيقة التي تبدو منسية عند المهتمين بشأن الثقافات الرفيعة في مصر، وهو الاختيار الذي حكمته حسابات غير معلومة.
أوان الأسئلة المشروعة
كانت الوزيرة السابقة سلسة ومرنة في التعامل مع النخبة الثقافية وعلى مدار السنوات التي قضتها في الوزارة (يناير 2018 - أغسطس 2022) لم تضبط يوما ما بأنها خاضت معركة مع مبدعين ومثقفين أو افتعلت أزمة مع أحد.
من المتوقع أن تسير الوزير الجديدة الكيلاني على النهج نفسه، فطريقة الاختيار لهذا المنصب تخلو من التوتر، لأن من يشغله توفيقي، وعلاقته هادئة بالوسط الثقافي ولا يتبنى ما يثير الإزعاج أو يحشر الحكومة في أزمات لا داعي لها، وإن حدث فالمناخ نفسه لا يساعد المثقفين على الدخول في تراشقات ممتدة وإبداء اعتراضات على توجهات قد لا تروق لبعضهم، كما كان يحدث من قبل، فالغالبية منزوية أو محبطة ومشغولة بمشروعاتها الإبداعية الخاصة.
◙ الرابط بين وزيرتي الثقافة؛ السابقة عبدالدايم والجديدة الكيلاني لا يتوقف عند حدود النوع والنسوية والتخصص في فنون تحتل مكانة لدى شريحة طفيفة في مصر حيث جاءتا من خارج نطاق الصخب الثقافي
هل فقدت الأجواء في مصر زخمها في المجال الثقافي؟ وهل السياسات الناعمة التي تنتهجها الوزارة لم تعد تثير الشهية لخوض المعارك الثقافية؟ ولماذا دخل المثقفون الحظيرة التي اخترعها الوزير الأسبق فاروق حسني وربيبه الراحل جابر عصفور، ولم يخرجوا منها حتى الآن تقريبا؟ وكيف يتمكن من يتبوأ هذا المنصب من الحفاظ على درجة عالية من الاستقرار حوله؟
لا تتوقف حزم الأسئلة المشروعة حول دور الوزارة في خروج المثقفين من دوائر الضجيج المعتادة، فلم يكن يجتمع اثنان منهم إلا وكان الخلاف حاضرا، فما بالنا إذا كان الآلاف منهم يتمسكون بفضيلة الصمت، ولا يمثلون إزعاجا لأيّ من التصورات الثقافية التي تتبناها الوزارة، مهما بلغ مستوى الخلاف معها؟
جاءت الكيلاني وسط مناخ لن يمثل قلقا لها أو لمن وقع اختيارهم عليها، حيث مر قرار تعيينها بكل هدوء، وكأن هذه الحقيبة لا تعني أحدا الآن بعد أن كان يتعرض صاحبها لما يشبه محاكم التفتيش، أو أنها تسير على الطريق الصحيح وتحظى بمباركة المثقفين وتؤدي العمل المنوط بها على أكمل وجه.
لا يشير الواقع إلى أيّ من ذلك، لكن هناك حالة من فقدان الحماس الذاتية لدى المبدعين تشبه مسرح العبث واللاجدوى في الإصلاح، فالتصحر الذي تعيشه الثقافة في مصر وإن شهدت كرنفالات متباينة وطفرات متقطعة، لا يشجع على البحث عن التطوير، وغياب المشروع الذي يستثمر في إحياء القوة الناعمة جعل الكثير ممن حرضوا عليه سابقا لا يجدون حماسا موازيا من وزارة الثقافة على مدار السنوات الماضية.
الفن الرفيع
تخصصت الكيلاني في فن الباليه وشغلت العديد من المناصب الأكاديمية والعامة، مثل عمادة المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون بالقاهرة، ورئاسة صندوق التنمية الثقافية المعني بنشر الوعي في ربوع مصر، ما يعني أنها اقتربت من مجالات وفرت لها خبرة عملية تمكنها من العمل في بيئة جيدة إذا أرادت أن تعيد الأمل في مشروع قومي للثقافة لا يستغرق نفسه في التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالحفلات والمهرجانات وانتشار المكتبات والتوعية في المجتمعات الجديدة.
تمثل هذه المجالات فضاء رحبا ومفيدا، لكن لا يجب أن ينصبّ عليها تركيز الوزيرة، أو تسلك طريق البعض ممن سبقوها في الاهتمام بتخصصاتهم وفنونهم الأثيرة، فالوزيرة عبدالدايم التي تولت منصب رئيس الأوبرا شغلتها الأوبرا وحفلاتها كثيرا عن غيرها من الفروع الأخرى التي لها علاقة بصميم معركة التنوير، ووزير الثقافة الأسبق فاروق حسني وهو فنان تشكيلي شهد هذا الفن أزهى عصوره في عهده.
◙ تخصص الكيلاني في فن الباليه وشغلها للعديد من المناصب الأكاديمية والعامة كعمادة المعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون بالقاهرة، ورئاسة صندوق التنمية الثقافية وفر لها خبرة عملية
قادت هذه النوعية من التجارب إلى التساؤل: هل تولي الكيلاني اهتماما بالباليه وما يسمّى بالفنون الرفيعة عن غيرها؟ خاصة أن لها إبداعا علميا في هذا المجال الذي يشغل اهتمام طبقة ضيقة جدا في مصر، ووضعت كتابين كشفت فيهما عن حرصها على التأصيل والغوص في التفاصيل، هما: "الرقص في عصر النهضة"، و"وسائل الرقص ورسائل الدراما".
بدت تصريحات الوزيرة الجديدة شحيحة منذ توليها منصبها قبل أسبوعين، ولا أحد يستطيع القطع بما تريد القيام به، وما هي طبيعة مهمّتها، غير أن الأحاديث الشحيحة لها قبل الوزارة وبعدها تشير إلى أنها تميل إلى التركيز في عملها، وستكون منسجمة مع التركيبة الوزارية التي تنفذ سياسات الحكومة في هدوء من خلال العمل على استيعاب المثقفين وسد الاحتياجات العاجلة والابتعاد عن معاركهم التقليدية.
يبدو منصب وزير الثقافة في أيّ دولة واسعا وفضفاضا وجذابا أيضا، ويتوقف ما يحققه المسؤول عنه على ما يملكه من أفكار للتطوير وما توفره الحكومة من إمكانيات تشجعه على صياغة مشروع ينطوي على أهداف محددة، ومدى قدرته على جمع شمل المثقفين. وفي الحالة المصرية الراهنة يصعب القول إن هناك مشروعا تمتلكه الكيلاني أو مساندة من قبل الحكومة لها على بلورة أفكار تعيد إلى القاهرة بريقها الثقافي.
تأتي الأزمة الحقيقية من الأهمية التي تحتلها الثقافة في مصر، فعندما كانت تحتل مرتبة متقدمة في سلم أولويات الدولة شهدت البلاد زخما كبيرا، وتحولت القاهرة إلى منارة في المنطقة العربية، ووصلت الفنون والثقافة إلى أقصى بقعة داخل مصر، وحمل مثقفوها منارة الإبداع فترة طويلة، ما منحها مكانة في الوجدان العربي العام.
البحث عن مشروع
أظهرت الدولة المصرية على مدار السنوات الماضية اهتماما بالثقافة من ناحية الشكل إلا أنها لم تمنح المضمون القدر الذي يستحقه، وإن بدت تحركات المسؤولين عنها كأنهم أصحاب مشروعات للنهضة، يريدون أن تكون لهم بصمات واضحة بالصورة التي توحي بتجاوز تخصص الوزير وتخطي الكرنفالات، وهو أمر لا يدل على عمق الرؤية وصلابة الفكرة، فما ترتب عن ذلك لم يكن مفيدا للثقافة المصرية.
إذا أرادت الكيلاني أن يكون لها دور محوري في حقل الثقافة عليها أن تتخلى عن الغوص في تفاصيل القضايا الصغيرة وتنشغل بالمشروع الكبير، والذي لا يهمها كوزيرة فقط تريد أن تخلّد اسمها، بل يهم الدولة الباحثة عن استعادة ريادتها في المنطقة، ودون وجود فكرة مركزية في الحلقات الثقافية المتناثرة من الصعوبة أن تنجح معركة الوعي في الداخل، ويتم استرداد المكانة في الخارج.
◙ مصر تحفل بالإنتاج الفردي في مجالات ثقافية متنوعة، ويتشوق المبدعون إلى رؤية وزارة الثقافة وهي تقدم لهم مشروعا يمثل نقطة ضوء يلتفون حوله
تحفل مصر بالإنتاج الفردي في مجالات ثقافية متنوعة، ويتشوق المبدعون إلى رؤية وزارة الثقافة وهي تقدم لهم مشروعا يمثل نقطة ضوء يلتفون حوله، فقد طال أمد التشتت والتفكك في شكل القوة الناعمة، وبعدت المسافات بين ما يحدث في مصر وما تريده قيادتها السياسية من مكانة تتواءم مع التاريخ والطموحات.
تملك نيفين الكيلاني الكثير من المؤهلات التي تمكنها من جمع المثقفين على كلمة سواء والتوافق حول الآليات اللازمة لصياغة مشروع طال انتظاره، وتستطيع الاستفادة من النشاط الحاصل بشأن الاستعداد لمرحلة مليئة بالحيوية في الدولة.
فالجمهورية الجديدة التي تتحدث عنها الحكومة وإعلامها ليلا ونهارا من الضروري أن تتوافر لها انطلاقة ثقافية جديدة تنفصل عن الأزمات الاقتصادية وروافدها الاجتماعية وتتجاوز مسألة الحث على الوعي ونشر التنوير وزيادة عدد المكتبات، وهي شعارات لا تمكّن صاحبها من تبني مشروع.
يتطلب المشروع رؤية واضحة لما تريده الدولة المصرية في المجال الثقافي وهي لا علاقة لها بقصص الفقر والرفاهية، ومدى جديتها في توظيف أدواتها الناعمة في خدمة أهداف الدولة، فالشعارات التي تدغدغ مشاعر الناس لن تفيد مصر، والبحث عن الاستعراضات الإعلامية تكبل أيادي المثقفين ولا تتيح الفرصة لأيّ تطوير، وكل ما من شأنه أن يندرج في باب الاستهلاك الثقافي سوف يصطحب معه مردودات سلبية.
