نهضة علماء أفغانستان رهان إندونيسيا لتأهيل طالبان وكبح التطرف

تحسبا لخروج الأزمة المحلية في أفغانستان عن السيطرة وتمددها نحو الجوار واستقطابها لتيارات وتنظيمات متشددة، مدت إندونيسيا أيادي المساعدة لحركة طالبان، عبر تأسيسها جمعية نهضة علماء أفغانستان التي يقول محللون إندونيسيون إنها قد تدفع نحو تبني الأفغان لفكر معتدل يجمع بينهم من خلال فلسفة “البانغاسيلا” المناسبة لإدارة الواقع الأفغاني التعددي.
انتهجت إندونيسيا سياسة واقعية مكنتها من التعامل بإيجابية مع ما يجري على الأرض من متغيرات، وبدأت تستبق الأحداث بمبادرات وقائية لامتصاص تأثيراتها السلبية بحيث لا تطال الداخل، وهو ما ظهرت تجلياته في أساليب التعامل مع الساحة الأفغانية بعد صعود حركة طالبان.
ولم تُظهر النخب السياسية والفكرية الإندونيسية تعنتًا ورفضًا للمستجدات في أفغانستان بعد صعود طالبان مجددًا إلى السلطة بقدر ما طرحت حلولًا وأبدت استعدادًا للتعاون مع الحكام الجدد بهدف إعادة تأهيل طالبان ونقلها من مستوى إدارة الجماعات إلى مستويات إدارة الدولة.
وسبقت جاكرتا التطورات وأشرفت على تأسيس نسخة أفغانية من جمعية نهضة العلماء في إندونيسيا، وهي جمعية نهضة علماء أفغانستان التي جرى الإعلان عن تشكيلها في عام 2014، وهي جمعية دينية تتبنى نفس الخط الفكري المعتدل لمثيلتها الإندونيسية، حيث تنشط كقوة اجتماعية تهدف إلى توحيد أفغانستان وتروّج الآراء الإسلامية الوسطية.
ودعت جمعية نهضة علماء أفغانستان التي يتزعمها ستار عبدالحياة خلال مؤتمر نظمته في كابول مؤخرا دول العالم إلى الاعتراف بسلطة طالبان، متعهدة بتسريع جهودها في نشر مبادئ الوسطية بأفغانستان.
ورحبت حكومة طالبان بنتائج المؤتمر وتوصياته خاصة المتعلقة بدعوة كل من المملكة العربية السعودية وباكستان وإيران، بجانب إندونيسيا، إلى الاعتراف بحكومة طالبان وتمكينها من العبور بأفغانستان من هذه الفترة الحرجة تمهيدًا لمرحلة تالية تشهد تغييرات في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الأفغاني وتدفع باقي دول العالم لأن تحذو حذو الدول الأربع معترفة بسلطة حركة طالبان ومقيمة علاقات طبيعية معها.
طموح إقليمي

عبدالله محمود: طالبان بحاجة إلى دراسة "البانغاسيلا" للتمكن من إدارة الدولة
عكست حفاوة طالبان بالجهود التي تقوم بها جاكرتا -مع أن الأخيرة لم تعترف بعد بسلطة طالبان- إدراكها لأهمية الأدوار التي تقوم بها دولة ذات ثقل مثل إندونيسيا (باعتبارها أكبر بلد إسلامي من حيث عدد السكان) في تعزيز حكم إمارة طالبان كحكم شرعي يعبر عن طموحات مجمل سكان أفغانستان.
وتنظر إندونيسيا إلى أساليب تعاطيها مع الأزمة الأفغانية في سياق خططها لخلق فرص عديدة تطرح من خلالها فلسفة المواطنة الخاصة بها، وهي “البانغاسيلا”، كتصور رئيسي يصلح مرجعية لحل النزاعات والصراعات على المستويين الإقليمي والعالمي.
وامتلكت إندونيسيا رأس المال الاجتماعي والدبلوماسي في الداخل الأفغاني عبر التحرك تحت مظلة جمعية نهضة علماء أفغانستان التي تستقي مناهجها وتصوراتها من الجمعية الأصل في إندونيسيا، وهي تكتفي بدورها الاجتماعي الجماهيري ولا تقوم بأنشطة سياسية ولا تطرح نفسها كحزب له أهداف أو أطماع في السلطة.
وأوضح رئيس مجلس شورى جمعية نهضة العلماء بإندونيسيا الشيخ أسعد سعيد علي -وهو صاحب الإسهام المهم في تأسيس نسختها الأفغانية- لـ”العرب” أن عضوية نهضة علماء أفغانستان امتدت إلى 22 مقاطعة أفغانية من أصل 34، وتحرص في خطابها وأدبياتها على التأكيد على التزامها بالمواطنة والوحدة الأفغانية وتجميع الشعب بمختلف طوائفه وأعراقه على قناعات وتصورات وأهداف عامة، ممثلة في قيم ومبادئ أساسية مثل التوازن والاعتدال والتسامح والعدالة والشورى.
ويسمي بعض قادة جمعية نهضة علماء أفغانستان هذه المبادئ العامة بمبادئ “البانغاسيلا” الأفغانية ويحرصون على تكثيف التنسيق مع قادة طالبان لترويج المناهج الفكرية المعتدلة التي تنتهجها داخل الأوساط الأفغانية من منطلق الزهد في المنافسة السياسية والتجرد في تقديم الخدمات الاجتماعية والإعانات الإنسانية، وهو ما وضح خلال أزمة جائحة كورونا.
هذا علاوة على جذب طالبان في اتجاه الاعتدال والوسطية والعمل على توحيد الحركة المنقسمة على تصورات جامعة تجعلها قادرة على قيادة أمة متنوعة الأعراق ومتعددة الطوائف.
بانغاسيلا أفغانية

مصعب مقدس: إندونيسيا نجحت في التقريب بين الفصائل الأفغانية
يصف العديد من المسؤولين والمفكرين والأكاديميين الإندونيسيين مشكلة أفغانستان بكونها متعلقة بكيفية التعامل مع مجتمع تعددي عرقيًا وعقائديًا وصهره في كيان سياسي موحد من خلال فلسفة جامعة هي فلسفة المواطنة، لذلك يجدون أن الحل المثالي الذي ينبغي على طالبان -أو أي سلطة أخرى في أفغانستان- أن تعتمده هو أن تحذو حذو إندونيسيا والاستفادة من خبرتها في قيادة أمة وإدارة مجتمع تعددي متنوع طوال 76 عامًا من استقلالها.
وأكد الفريق أول متقاعد عبدالله محمود هيندروبريونو، أستاذ فلسفة الاستخبارات في المعهد العالي للقانون العسكري بإندونيسيا، على أن طالبان بحاجة ماسة إلى دراسة “البانغاسيلا”، لأنها فلسفة الأمة والدولة الإندونيسية وبها تتمكن طالبان من إدارة الدولة التي تختلف عن إدارة الجماعات، حيث تجب تلبية تطلعات جميع الأعراق والمذاهب والطوائف في أفغانستان، لا تلبية تطلعات مذهب واحد وعرق واحد.
وأوضح هيندروبريونو في تصريح لـ”العرب” أن فلسفة “البانغاسيلا” هي الضامنة لتوحيد أفراد شعب من ديانات مختلفة ومذاهب وأعراق شتى ليتحدوا في سياق دولة موحدة وهدف وطني واحد، كما أنها تضمن مواكبة التطور كونها تركز على المشتركات بين القيم السياسية الحديثة والقيم الإسلامية التي تتبناها الأغلبية وكذلك القيم الموجودة في الثقافة الإقليمية، ولذلك فهي مناسبة للواقع الأفغاني التعددي الذي يعتنق قيمًا محافظة ويتطلع في نفس الوقت إلى مواكبة التطورات العالمية والانفتاح على القوى المتقدمة.
وتسود قناعة لدى النخب السياسية والفكرية والأمنية في إندونيسيا مفادها أن عدم التعامل مع طالبان حاليًا والعمل على إفشال تجربتها الجديدة في الحكم أمر غير مجد بل له آثار عكسية كارثية على الداخل الأفغاني والمحيط الإقليمي والعالم كله، والأجدى هو قبولها بشروط والإسهام في إصلاحها وتطويرها من أجل إنشاء دولة أفغانية حديثة تكون صورة للإسلام الوسطي المتسامح الذي هو رحمة للعالمين.
تطوير طالبان

أسعد سعيد علي: نهضة علماء أفغانستان تحرص على الوحدة الأفغانية
كي تتجاوز طالبان أخطاء وخطايا تجربة حكمها الأول من عام 1996 إلى 2001 ينبغي أن تنهي الانقسام الحادث داخلها بين فصائل بعضها منحاز إلى روسيا والصين وإيران وبعضها الآخر منحاز إلى باكستان، وفصائل معتدلة أبدت استعدادها للتطور وأخرى متشددة ومخترقة جرى استقطاب عناصر من داخلها وتجنيدهم من قبل داعش خراسان.
كما ينبغي على طالبان استخلاص العبر وتعلم الدروس من تجاربها السابقة، خاصة في ما يتعلق بضرورة عدم تكرار حماية تنظيم القاعدة وتوفير المأوى لقادته وعناصره وهو ما سمح باستخدام أفغانستان كساحة لإعداد وتطبيق المخططات الإرهابية الخارجية، فضلا عن إدراك المعنى الحقيقي لتطبيق الشريعة الإسلامية وفق الرؤى العقلانية الإنسانية وبتحقيق مبادئ الشورى والعدل والكرامة الإنسانية والمساواة، وليس وفق تأويلات وتصورات الجماعات السلفية الحركية المنغلقة والجامدة.
ويرى خبراء أمنيون وباحثون في شؤون الحركات الإسلامية في إندونيسيا أن هذا التعاطي الإيجابي والاستباقي مع الأحداث في أفغانستان من شأنه أن يجعل جاكرتا في موضع المبادر الذي يمسك ببعض الخيوط التي تمكنه من السيطرة على مسارات التطرف والإرهاب وكبحها، وعدم ترك الساحة الإندونيسية عرضة للتأثيرات المتطرفة والتكفيرية خاصة من قبل كيانات ناشطة في الساحة الأفغانية.
ومن منطلق هذا التموقع في الساحة الأفغانية وعلى الصعيد الإقليمي الآسيوي حرصت النخب الفكرية والأمنية الإندونيسية على امتصاص حماسة الجماعات المتطرفة والإرهابية داخل إندونيسيا وحرمانها من استغلال صعود طالبان إلى السلطة في أفغانستان لصناعة انتصارات دعائية لها في مواجهة الحكومة.
وروجت هذه النخب قناعة مفادها أنه لا يوجد خطر على إندونيسيا نتيجة استيلاء طالبان على السلطة في أفغانستان؛ حيث تختلف أيديولوجيتها عن أيديولوجيا المتطرفين الإندونيسيين الذين ينتهجون الفكر السلفي الوهابي التكفيري بينما تنتمي طالبان إلى مدرسة الفقه الحنفي ولا تؤمن بالجهاد العابر للحدود ولم تطلب دعمًا من ميليشيات من خارج أفغانستان لمساعدتها في الهيمنة على السلطة، علاوة على أن طالبان طورت علاقاتها مع روسيا والصين على عكس المتطرفين في إندونيسيا الذين يعتبرون هذين البلدين عدوّيْن للأمة الإسلامية.
إندونيسيا تنظر إلى أساليب تعاطيها مع الأزمة الأفغانية في سياق طرح فلسفة المواطنة الخاصة بها، وهي "البانغاسيلا"
وحصرت إندونيسيا الخطر في ما قد يفعله داعش من تجنيد أعضاء جدد أو تسهيل انضمام عناصر منه إلى داعش خراسان، حيث تجمعهما أيديولوجيا واحدة وهو ما يجعل الحكومة الإندونيسية وطالبان متحدين ضد عدو مشترك هو داعش في البلدين.
وأوضح الخبير الإندونيسي في شؤون الحركات الإسلامية مصعب مقدس لـ”العرب” أن طالبان تنقسم إلى ثلاثة فصائل رئيسية وهي الفصيل التابع لأمير الجماعة هبة الله أخوند زاده، والثاني هو التابع لسراج الدين حقاني وزير الداخلية الحالي، والثالث هو التابع للملا رسول، بالإضافة إلى العديد من الفصائل الصغرى، وجميعها تحتدم بينها الخلافات الفكرية والسياسية.
وشدد مقدس على أن إندونيسيا على الرغم من أنها لم تعترف بسلطة طالبان حتى الآن بسبب وجود القاعدة في أفغانستان وبسبب انقسام الحركة، إلا أنها أحرزت نجاحات كبيرة من خلال جهود نهضة علماء أفغانستان على المستوى الفكري أو مستوى إيصال المساعدات الإنسانية، فضلًا عن التحرك الإندونيسي الحيوي في سياق استيعاب وحل الخلافات الداخلية وخلق صيغة تقارب بين الفصائل الأفغانية.
فهم الواقع وتداعياته
تدعو النخب الإندونيسية إلى فهم الواقع الأفغاني جيدًا بهدف بلورة تصور واقعي وإيجابي للتعامل مع المستجدات هناك وعدم إبداء مواقف سطحية ومتسرعة ضررها أكثر من نفعها. من ذلك على سبيل المثال لصق تهمة التعاون مع القاعدة بعموم حركة طالبان، على الرغم من أن الفصيل الأكبر داخلها وهو الموالي لهبة الله أخوند زاده يرفض في مجمله استمرار العلاقات مع القاعدة على عكس حال فصيل سراج الدين حقاني.
ويلفت العديد من المراقبين في إندونيسيا إلى ضرورة البناء على الجانب الإيجابي في طالبان التي يرون أنها تبدي حسن نية ومواقف تعكس تطور أدائها مثل ما جرى في سياق محاربة داعش خراسان واعتقال العشرات من عناصره والقضاء على بعض قادته مثل أبوعمر الخرساني في سبتمبر العام الماضي، فضلًا عن السماح بتسليح الشيعة الهزارة للدفاع عن أنفسهم في مواجهة تهديدات داعش.
طالبان تنقسم إلى ثلاث فصائل رئيسية، بالإضافة إلى العديد من الفصائل الصغرى، وجميعها تحتدم بينها الخلافات الفكرية والسياسية
وأرجع هؤلاء بطء الإصلاحات في مجال حرية المرأة وحقوقها إلى القيود المفروضة على توافر الأموال اللازمة لتأهيل وتجهيز أماكن العمل وفصول الدراسة بالنسبة إلى الطالبات والمعلمات بعد هروب العديد منهن إلى الخارج، في وقت تفقد فيه المرأة الأفغانية وظائفها نتيجة إفلاس وإغلاق العديد من المكاتب التي تعمل فيها، ورغم ذلك فتحت 13 مقاطعة من أصل 34 مدارسها للطالبات في ظروف معقدة وغير مواتية.
وفي السياق الاقتصادي تناشد النخب الإندونيسية كافة القوى الدولية مساعدة أفغانستان وعدم فرض عقوبات على الحكومة الجديدة التي تتوخى -وفق متابعة من مسؤولين بجمعية نهضة علماء أفغانستان- اختيار موظفين مدنيين وجنود في القوات المسلحة من غير الفاسدين وممن لا تحوم حولهم شبهات مخلة بالسمعة.
وفي المجال السياسي يذكّرون بفشل الولايات المتحدة في إدارة البلاد بالوكالة على مدار عقدين، لافتين إلى أن ما يناسب أفغانستان دستوريًا هو إحياء دستور عام 1964 الذي جرى العمل به خلال حقبة آخر ملك للبلاد وهو السلطان محمد ظاهر شاه، وأن النظام السياسي الأمثل ليس النظام الديمقراطي على الطريقة الغربية إنما النظام التمثيلي الذي يراعي الطبيعة الأفغانية القبلية والذي يبدأ من القرية والمدينة والمقاطعة والمراكز، وهو ما يعتمد على مفهوم الشورى عند قبيلة الفاشتو.