نهاية الكاتب

في فيلم “الكاتب” للمخرج الإسباني مانويل مارتن كوينكا، تشكل نهاية البطل خاتمة مثالية لنصه الروائي، فالمحامي القديم الذي أراد التحول إلى كاتب، يقوم بتسجيل وقائع ما يجري في عمارته، وتوجيه بعض الأحداث لتقع جريمة قتل، تسعفه في بناء نص بوليسي مشوق، لكن ما تخيله بوصفه مسارا منطقيا، لم يحدث، وطرأت مفاجآة أودت بالمؤلف إلى السجن، والنتيجة رواية حقيقية مدهشة تتجاوز تلك التي خطط لها الكاتب.
وفي الواقع يمكن أن تكون نهاية الكاتب، أحيانا عديدة، على نحو مناقض لما تخيله، قد لا تكون فقط بالموت أو الاعتزال الإرادي، قد تكون أيضا بالسقوط الأدبي والأخلاقي أو بهروب الزمن، حالات عديدة يواجه فيها الكاتب قدر الشيخوخة بقرار الاعتزال، فللكتابة عمر، مثلها مثل بقية المهن.
والكاتب جسد ناهض وحواس متقدة، قبل أن يكون موهبة وحكمة مستقطرة من توالي السنين. لكنه أيضا معرض لأن ينتهي اعتباريا، وهو حي، أن ينمحي وجوده وهو لا يزال يصدر كتبا، ببساطة لأن الكتابة كيان هش يمكن في أي لحظة أن يتحطم، وينتهي تماما. إصدار واحد لا قيمة له كفيل بمصادرة المسار، فضيحة واحدة قد تشطب البريق عن الكتابة.
كما أن مفاجآة الحياة تسطر نهايات لم تكن بالحسبان لمن ملأوا السمع والبصر يوما، لم نتخيل مثلا أن يقضي رولان بارث إثر حادثة سير عبثية، أن تصدمه سيارة وهو خارج من محاضرة، وما كان بإمكاننا أن نتصور أن يموت فيلسوف كبير من قامة ميشيل فوكو بمرض الإيدز، أو أن يموت سانت إكسوبيري بسقوط طائرة.
نتفهم أحيانا أن ينتحر الكتّاب، تبدو النهاية منطوية على قدر جم من الحرية والقوة والرمزية، في رحلة الخلود، ذلك ما فعله همينغواي بفارق غير قليل من الزمن عن خليل حاوي حين أطلقا الرصاص معا على رأسيهما، احتجاجا وسأما وسعيا لمعانقة العدم.
مثلما نستوعب أن حكم الإعدام بجبروته العاتي، يشبه إرادة الكاتب في مواجهة السّلط، إعدام لوركا هو جزء من أسطورته الشعرية، وإعدام سيد قطب هو الأسطورة ذاتها.
لكن لندع تلك الأقدار الدامية التي تختطف الحياة من الكتّاب، لنتوقف عند إرادة البقاء على هامش المشهد؛ أن ينتهي الكاتب بهروب ملتبس غير مدرك إلا كنسيان للزمن، أعرف عددا من الكتاب ممن لا يعون في لحظة ما من توقفهم أن الزمن لا يمكن أن يستوعب مجددا أي عودة لهم، نحن لا نرتاح سنوات في عالم الكتابة، ولا نأخذ إجازات طويلة الأمد دون مرتب، الكتابة مكابدة يومية، واسم له وهج إما أن يصقل باستمرار وإما يسقط في وهدة النسيان.