نقص في البيانات يحول دون أتمتة المصارف

تزداد المخوف من فقان الوظائف في مجالات عدة بسبب تسارع الذكاء الاصطناعي، ذلك أن العاملين بالبورصات وصلهم هذا التهديد الذي سيكمم أفواههم في ساعات صباح العمل وذلك من خلال خوارزميات تحمل أسماء زواحف طوّرها بنك فرنسي لتسهيل عمل مئات مديري صناديق التحوط وأمناء صناديق الشركات ممن يستخدمون أنظمته.
باريس ـ يولي مصرف “بي إن بي باريبا” الفرنسي كثيراً من عمليات تداول العملات الأجنبية إلى متداول يُسمى “فايبر”، وكذلك “إيغوانا” و”كاميليون”، وهي أسماء أنواع لزواحف اختارها المصرف ليسمي خوارزمياته التي طوّرها لتسهيل عمل مئات مديري صناديق التحوط وأمناء صناديق الشركات ممن يستخدمون أنظمته.
وتنشط هذه الخوارزميات الثلاث ضمن أداة تداول تحمل اسم “ريكس”، وقد استُوحيت تسميتها أيضاً من مخلوق من الزواحف أيضا، و”بي إن بي” ليس المصرف الوحيد الذي اتجه إلى تقنية الخوارزميات.
واتجهت مصارف منافسة أخرى، مثل”جس بي مورغان بشيتس” و”غولدمان ساكس”، نحو تقنية الخوارزميات لتزداد قوةً. واكتسب هذا الأمر أهمية بالغة في أوساط الحرس القديم في وول ستريت الذين يسعون جاهدين ليحافظوا على رضاء العملاء.
وقال آصف رزاق، الرئيس الدولي لخدمات تنفيذ تعاملات العملات الأجنبية بواسطة الخوارزميات لدى “بي إن بي” لوكالة بلومبيرغ، “يصعب على المتداول متابعة عشر شاشات لتحديد سعر ما… يمكنك أن تعطينا مجموعة من الأوامر التي ترغب بتنفيذها وتدخلها إلى ريكس، فتعرض الأداة على العميل خطة التنفيذ على النحو التالي: هذا ما سأقوم به، سأوكل إلى كاميليون تنفيذ هذا الأمر وإلى فايبر تنفيذ ذلك الأمر”.
واشتكت المصارف طوال عقود من أن نقصاً في البيانات يحول دون أتمتتها لأسواق تداول العملات الأجنبية كما سبق أن فعلت مع الأسهم، إلا أن انتشار الخوارزميات في السنوات الماضية قلب الأوضاع رأساً على عقب سريعاً. فقبل جائحة كورونا، كانت 22 في المئة فقط من صناديق التحوط تستخدم هذه التقنية لتداول العملات، وقد ارتفع العدد اليوم إلى النصف.
ولت إذن الأيام التي كان المتداولون الصاخبون يمضون فيها ساعات عملهم في الصياح لإيصال أوامر البيع والشراء باستخدام مفرداتهم الخاصة
ولّت إذن الأيام التي كان المتداولون الصاخبون يمضون فيها ساعات عملهم في الصياح لإيصال أوامر البيع والشراء باستخدام مفرداتهم الخاصة.
وقال أليكسيس لامينغ، متداول العملات الأجنبية بواسطة الخوارزميات لدى “كريدي أغريكول”، “حين يدخل الناس غرفة تداول، يتوقعون سماع الكثير من الضجيج، وأشخاصاً يصيحون في سماعات الهواتف… لكن الأمر لم يعد كما تشاهدون في الأفلام”.
مع ذلك، لهذه الحقبة الجديدة سلبياتها التي انعكست على عمالقة وول ستريت. فمع تولّي الآلات معظم العمل، تجني مكاتب التداول مبالغ أقل بكثير عن كل عملية تقوم بها، مقارنة بالماضي. وفي غياب تدخل العنصر البشري، يزداد خطر وقوع أخطاء، خاصةً خلال اشتداد التقلبات.
وحين انضم رزاق إلى “بي إن بي باريبا” عام 2010، كانت معظم تداولات العملات في المصرف تكون عبر اتصال أحد العملاء بمكتب التداول ليطلب إصدار أمر بيع أو شراء. لكن مع توليه وظيفته الجديدة، كُلّف بمهمة لم تكن سهلةً، وهي أتمتة أكبر جزء ممكن من عمليات التداول.
وباشر رزاق عمله، وقد أتى إلى المصرف يحمل شهادة عليا بالذكاء الاصطناعي من جامعة الملكة ماري في لندن، وكان قد عمل سابقاً في “يو بي إس غروب” و”سيتي غروب”.
وركّز في البداية على بناء خوارزميات يمكن للمتداولين العاملين ضمن “بي إن بي” استخدامها في تحويط مراكزهم وإدارة المخاطر، لكن سرعان ما قرر المصرف الفرنسي توضيب هذه الخوارزميات لإتاحتها للعملاء، وهكذا نشأ كل من “فايبر” و”كاميليون” و”إيغوانا”.
المصارف اشتكت طوال عقود من أن نقصاً في البيانات يحول دون أتمتتها لأسواق تداول العملات الأجنبية كما سبق أن فعلت مع الأسهم
ومع ازدياد عدد العملاء الراغبين بالتداول بواسطة الخوارزميات، انطلق سباق بين البنوك على تشكيل الفرق القادرة على تطوير هذه التقنية لصالحها.
وقال بول لامبيرت، الرئيس التنفيذي لشركة تزويد البيانات “نيو تشاينج إف إكس”، “الأمر بديهي بالنسبة إلى البنوك… هي تستثمر الأموال في التقنية لأنها تدرك بأنها في خضم سباق تسلح”.
وتأتي خوارزميات “بي إن بي” الثلاث بخصائص مختلفة، فيمكن للعملاء استخدام “فايبر” حين يريدون التداول بجرأة والتخلص من المراكز الخطرة سريعاً، في ما أن “كاميليون” أنسب لإنجاز التعاملات الأكبر تدريجياً وببطء في السوق دون التسبب بخضّات كبيرة.
أمّا “إيغوانا” فكانت آخر خوارزمية أنشأها “بي إن بي”، وموجّهة للعملاء الذين يدركون أنهم يريدون القيام بعملية تداول محددة ضمن فترة زمنية معينة، ولكن لا يعرفون الوقت الأنسب لتنفيذها ضمن هذه الفترة.
وقال رزاق الذي يحمل معه لعبة على شكل الديناصور ريكس من فيلم لـ”والت ديزني” إلى كل عروض المبيعات التي يشارك فيها، إن “لسان حال إيغوانا هو: حدّد لي وقت الانطلاق والوقت النهائي، ودعني أعمل على إيجاد أفضل مسار لك ضمن هذه الفترة… تتغير الخوارزميات حسب اليوم والسيولة المتوفرة وزوج العملات المختارة. لقد صُممت كاميليون وإيغوانا وفايبر لتكون فاعلة حين لا يتسنى للمتداولين ما يكفي من الوقت لمعايرة كل هذا”.
في “سيتي غروب” الذي يضمّ أحد أكبر مكاتب تداول العملات، ارتفع حجم التداول بواسطة الخوارزميات مع البنوك الإقليمية بنسبة 200 في المئة في يناير مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق.

وقال مارك ميريديث، رئيس التداول الإلكتروني للعملات في الأسواق المحلية، “تعجبهم كفاءة التكلفة التي يقدمها المنتج”. كما أن “دويتشه بنك”، العملاق الآخر في مجال تداول العملات الأجنبية، زاد أيضا عروضه المستندة إلى الخوارزميات التي يقدمها لصناديق التحوّط، بعد ملاحظة ارتفاع حجم إجمالي مثل هذه التداولات بنسبة 40 في المئة في الربع الأخير من 2023 مقارنة مع الفترة عينها من السنة قبلها.
وقال فيتوريو نوتي، رئيس تداول المشتقات المدرجة في البورصة والعملات الأجنبية بواسطة الخوارزميات لدى “دويتشه بنك”، “نرى أعداداً متزايدة من العملاء ينظرون إلى التكاليف الإجمالية ويرتأون أن جعل خوارزمية تتعامل مع المصرف أسهل”.
إلا أن هذه الحقبة الجديدة من تداول العملات الأجنبية كان لها ثمنها. ففي بداية توسّع التداولات الإلكترونية في سوق الصرف الأجنبي، كانت البنوك تتقاضى نحو 50 دولاراً عن كل مليون دولار تتداولها بواسطة التقنية، ولكن اليوم مع تولي الخوارزميات معظم العمل، تراجع هذا الرسم إلى النصف أحياناً، أي 25 دولاراً.
وقال رالف دونر، رئيس الحلول التنفيذية في مجال الدخل الثابت والعملات والسلع في “غولدمان” إنه في ما يصبّ ذلك لمصلحة عوائد العملاء، هو يحدّ في الوقت عينه من الأموال المتوفرة لعمالقة وول ستريت كي يستخدموها في الاستثمار في تطوير التقنيات المستقبلية التي من شأنها أن تحدث تحولات في السوق.
وشرح دونر أن “تراجع الإيرادات الناجمة عن الرسوم بلغ الآن مرحلة بات يهدد فيها ابتكار المزيد من المنتجات في المستقبل والاستثمار في الأدوات التحليلية لصالح العملاء… نتفهّم أن العملاء يبحثون عن أفضل خيارات تنفيذ التعاملات، لكننا نريد منهم ونتوقع منهم أن يركزوا أيضاً على الأداء الشامل على المدى الطويل حين يقيّموننا”.