نقاش في تعقيدات الثورة السورية
منذ عامين أو ثلاثة باتت أغلب التحليلات المتعلقة بمآلات الثورة السورية مشوبة بشحنات من المرارة والقلق، وربما الإحباط أو اليأس، سيما مع هذا السكوت أو التسامح الدولي والعربي مع نظام بشار الأسد، المسؤول عن مصرع مئات الألوف من الضحايا، شهداء وجرحى ومعوقين ومعتقلين، والملايين من المشردين، الذين باتوا بلا عمل وبلا مأوى، وبلا وطن، ومع التدخل العسكري الإيراني والروسي الذي لا يفعل العالم إزاءه شيئا.
باختصار السوريون في كارثة بأتم معنى الكلمة، ولا يبدو أن ثمة في الأفق ما يحمل على الاعتقاد باقتراب خلاصهم، فالأوضاع الدولية تعاندهم، ولا تتجاوب مع الحد الأدنى لمتطلباتهم، والأوضاع العربية والإقليمية لا تساعدهم على نحو جيد، بل إن بعض الأطراف وجدت في هذه الثورة فرصتها لفرض ذاتها كلاعب إقليمي، من خلال التلاعب بالثورة وفرض مسارات أو خطابات معينة عليها. والمشكلة أن الأوضاع على الصعيد الداخلي، أي وضع الثورة ذاتها، وقدرتها على التحكم بأحوالها، وعلاقتها بمجتمعها، لا تبدو أفضل حالا، لا بالنسبة إلى القوى السياسية والمدنية ولا بالنسبة إلى الجماعات العسكرية.
مع ذلك، أي مع كل ما يحصل، يجدر الانتباه إلى أن الأحوال لن تعود إلى السابق في سوريا، وأن الثورة أو الانتفاضة أو الحركات الشعبية السورية، على علاتها، أنهت إلى الأبد فكرة “سوريا الأسد”، بكسرها الانسداد الحاصل في تاريخ سوريا، وهذا شيء ليس بالقليل، وغير مسبوق، بالنسبة إلى الشعب السوري، ومجتمعات هذه المنطقة.
واضح أن الثورة السورية تعاني من مشكلات عديدة، وخطيرة، أولها، عجز الطبقـة السيـاسية السـائـدة عـن إنتاج قيـادة، أو أقله مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية، وعدم محافظتها على خطابات الحرية والديمقـراطية والكـرامة التي صـدرتها الثورة في بداياتها، وهو ما أضر بصدقيتها إزاء العالم وإزاء شعبها. وبالمحصلة، فإن هذه الطبقة لم تثبت أهليتها، بالقدر الذي يتناسب مع الأهمية التي تتمتع بها الثورة السورية، والتضحيات التي يبذلها شعبها.
وثانيتها، تتمثّل في حجم المداخلات الخارجية المضرّة في الثورة، والحديث هنا بالطبع لا يجري عن التدخّل لصالح النظام من قبل روسيا وإيران وحزب الله وداعش، ومعهم عصائب الحق وكتائب أبوالفضل العباس ولواء بدر وزينبيون وفاطميون (وكلها ميليشيات عراقية تتبع إيران) وإنما عن التدخل المتأتي من الأطراف الداعمة لهذه الثورة، والتي اشتغلت بشكل متضارب، وحسب مصالحها، ووفق حساباتها، لأخذ الثورة بعيدا عن مقاصدها وعن إمكانياتها، وزجّها في معارك غير محسوبة، استنزفتها وأضعفتها وشوهت مقاصدها. وبديهي أن المسؤولية هنا لا تقع على عاتق الدول المعنية فقط، إذ ثمة قسط من المسؤولية يقع على عاتق أطراف المعارضة ذاتها أيضا، لأنها سكتت عن هذه التلاعبات والمداخلات، عن غير وجه حق، ولأنها كانت في أحيان كثيرة مطيّة لها.
وثالثتها، تمثلت بتلك الهشاشة أو حال التفرق التي بدا عليها المجتمع السوري، والذي ظهر على شكل مجموعات سكانية متباعدة ومتفارقة، يكاد ألا يجمعها جامع، فضلا عن أن هذه المجموعات بدت وكأنها لا تبالي بما يجري، أو كأنها سلمت لاعتبارها سوريا بمثابة مكان للإقامة وليس وطنا يضم كل السوريين. ولعل هذه مناسبة للاعتراف بأخطاء كبيرة ارتكبتها الثورة، ولو عن غير قصد، أو لضعف في الخبرات، بحكم افتقاد التجربة السياسية، ضمنها الاعتقاد بأن معظم السوريين، على اختلاف مكوناتهم في صفها، في حين بَينت الأحداث أن تعقيدات الوضع الطائفي والمذهبي والإثني في سوريا أكثر صعوبة، وأكثر تعقيدا من أن يتم تأطيرها في معادلة تتألف من مقولة بسيطة: ثورة في مواجهة نظام.
وعلى النقيض من ذلك فقد استمرأت بعض خطابات المعارضة تفسير أحوال سوريا بوجود سلطة “علوية”، من دون تمييز بين هويتها وبين الطائفة التي تسيطر عليها أكثر من غيرها. وقد بينت التجربة أن هذا وحده ليفسّر بقاء النظام، فإلى جانب استخدام القوة العاتية والمداخلات الخارجية المتضاربة التي عوّقت الثورة وأضرت بها، فإن بقاء هذا النظام يرجع إلى نواة صلبة تتألف من كل مكونات المجتمع أي سنّة ومسيحية، مشايخ وقساوسة، يساريين وعلمانيين و”قومجيين” وموظفين ورجال أعمال ومثقفين من كل الطوائف، ما يفسر عدم قدرة الثورة على تنظيم عصيان مدني مثلا أو تفكيك جهاز الموظفين.
وبديهي فإن استسهال التحول نحو الثورة المسلحة، والتسرع في التعويل على العمل المسلح، كان لهما كبير الأثر، أيضا، في وصول الثورة إلى هذا المأزق، مع التقدير لكل التضحيات والبطولات التي بذلت، والتأكيد بأن الحديث هنا لا يتناول الأفراد أو ظاهرة وحدات الدفاع المحلية، أو ظاهرة المنشقين عن الجيش، وإنما يتناول الجماعات العسكرية التي جرى ترتيبها في الخارج وإقحامها في الداخل السوري، وتقديم الدعم لها، على حساب الجيش الحر، لفرض أجندة معينة، أو لصبغ الثورة بلون معين.
وبدورها، فإن المراهنة على أي شكل ما من أشكال المساندة أو التدخل الخارجيين، وهو لم يحصل، أثرت بشكل سلبي، في انتهاج خيارات معينة، ولا سيما في التحول نحو حصر الثورة في العمل المسلح، وزيادة الاعتماد على الخارج، وتوهم قيام مناطق محررة.
وأخيرا، فإن صبغ الثورة بلون معين، أي بالتدين والطائفية، على حساب طابعها الوطني، هـو نتاج التحـول نحو العسكرة، مع الافتقاد للحاضنة الشعبية، والتعويل على الخـارج، وقـد كان لذلك أثره في التسهيل على جماعات “القاعدة”، وبالتالي على “داعش”، فرض ذاتها في المناطق “المحررة”، والتحول إلى نوع من ثورة مضادة، أثقلت على ثـورة السوريين وشوهت صورة كفاحهم، وزادت أحوالهم صعوبة وتعقيدا. يبقى الأمل أن يستطيع السوريون الخروج من هذه الحالة، في استعادتهم لأحوالهم ولقرارهم بشأن مستقبلهم.
كاتب سياسي فلسطيني