نفوق الدولة!

لا شك أن الفرق كبير بين الإنفاق والنفوق، في معايير الدول، فمثلما تُنفق الدولة على حاجاتها وميزانياتها السنوية وخططها الخمسية والعشرية وسواها من المُدد التي يحددها “استراتيجيوها” فإن الدول أيضاً تصاب بحالة من النفوق تؤدي لموتها!
لتراكم الفساد الذي يستشري فيها، ويقودها إلى الضمور والتلاشي بعد نسف المعايير وضرب ذاكرتها الوطنية، وكأنها لعبة إلكترونية لمحترفين سئموا اللعب ويلجأ طرف منهم بالنقر على “دليت”، لمسح جيوشها وقواها المدنية، واجتثاث طاقاتها، وتخريب شوارعها ومدنها وتجفيف أنهرها، وتبديد ثرواتها، ليستحيل حديث الناس عن الديمقراطية إلى “نفوق الأسماك” وهدر الثروات ورمي المليارات التي تأكلها أفواه مفتوحة لا تشبع، دأبت الاستحواذ على موارد الدولة وعقودها، التي تكون في غالبيتها كاذبة مُورطة، تُنتزع لقوى امتلكت السلطة بالأسلحة ودخلت بمسميات تحاكي عواطف الشارع المتعطش للتغيير الذي ينشد الحرية والديمقراطية والتعددية والفيدرالية وسواها.
ويتعاطف الناس مع تلك المصطلحات بهدف التغيير والتبديل وإحالة الصور النمطية التي سادت نصف قرن إلى التقاعد، كما أحيلت وزارات بأكملها إلى التسريح بلا رواتب أو نهاية خدمة وراح موظفوها يبحثون في الأبنية المهجورة على السلاح، يقاتلون فيه قوى التجديد والوعيد.
ويحدث الصراع دون هوادة بين رموز الدولة القديمة الناقمة والنظام الجديد الهش القائم على الأمنيات وعواطف دون سند مشروع، يلجأ إلى نمط من استثارة الولاءات دون الكفاءات في الحكم.
أما سلطة التغيير فإنها تبقى مجرد قشور مسميات غير فاعلة لا تمثّل قوى الشارع الحالمة المسحوقة المفجوعة التي لم تعد قادرة على تحمّل الأذى الجديد الذي تتعرض له، في وقت تنفق الدولة الجديدة الأموال الطائلة على مشاريع وهمية، وأسماء أنصاف أو أرباع موهوبين، أوجدوا منافذ ومسميات لسرقة المال العام وتحويله إلى خاص، لا يجيدون غير التسلق للوصول إلى المواقع والمناصب دون رادع معرفي أو مهني وحتى أخلاقي.
ويكتشف المواطن الحالم بل يُفجع حين يجلس في إحدى الصباحات بلا ماء، بلا كهرباء، بلا أمل، بلا عمل، والأنكى أن ثوابته التي اعتاد عليها كمجرى أنهره وطعامه التقليدي يتلاشى أمام عينيه، لأن ثمة صراعات مافياوية تقودها قوى تتقاتل على السلطة والمال والنفوذ على حساب خطاب الفضيلة والمظلومية الذي جاءت وبشرت به قبيل وصولها سدة الحكم والسلطة.
في زمن القتل لا أحد يتحدث عن الرفاه والتمتع بالثروات الطائلة، لأن الناس أضحوا يعرفون أن الوطن كـ”الجمل يحمل ذهباً ويأكل شوكا”.
قد لا يعرف هؤلاء المتلاعبون بعقول الناس “أن الذي يأكل وحده يغص”، وأن معادلة الحكم التي تبقي الأفراد في السلطة أطول في العالم المسمى بالثالث “أن تأكل وتؤكّل الآخرين أيضا”.