نظرة على الدور الأبوي لمصر مع الفلسطينيين

المعادلة التي عرفتها القاهرة مقبلة على تحولات كبيرة والتوازنات التي أجادت التعامل معها بين إيران وأذرعها وإسرائيل وأهدافها وتركيا وتقديراتها والقوى الفلسطينية وتبايناتها تتطلب حسابات مختلفة.
الجمعة 2024/12/13
المطلوب من القاهرة تطوير دورها الأبوي

ليس المقصود بكلمة الأبوي فرض وصاية مّا أو التشكيك في قدرة الفلسطينيين السياسية، لكن التطورات المتلاحقة في المنطقة تفرض على مصر القيام بمسؤوليتها التاريخية وضبط بوصلتها مع المتغيرات، وزيادتها حيال عدم التفريط في ضياع القضية الفلسطينية، في وقت تتعرض فيه لتآكل من جهات متباينة، وأصبحت تفتقد لما كان يعرف بالجهات المساندة، المعتدلة والمقاومة، فدول الفريق الأول غالبيتها غارقة في معرفة الترتيبات المقبلة عليه المنطقة، والتحسب من تداعيات الموقف في سوريا على أطراف عديدة، وقوى الفريق الثاني انتهت وأجهز عليها تقريبا، ولم تعد قادرة على مساعدة نفسها، فما بالنا بدعم القضية الفلسطينية.

يفسر الماراثون المصري لإتمام مصالحة بين حركتي فتح وحماس لإدارة قطاع غزة الكثير من جوانب الشعور بالقلق من استمرار الخلافات بينهما، واعتراف بأن التحركات الجارية من قبل إسرائيل في الأراضي الفلسطينية ولبنان وسوريا، ضد الثوابت العربية، واستمرارها يقوض من الأهمية التي تحتلها القضية الفلسطينية في الوجدان الدولي العام، وهو ما ترفضه القاهرة، لأن المخاطر التي تنطوي على ذلك وخيمة، ولأن الأمن القومي المصري على صلة وثيقة بما يجري من تجريف على مرمى بصر في قطاع غزة والضفة الغربية.

◄ قد يكون النظام المصري لديه من المرونة ما يساعده على فهم التحركات ومآلاتها، ويملك علاقات إقليمية ودولية جيدة، لكن الفرز الحاصل ليس بالضرورة تنجح القاهرة في التأقلم معه

قد لا تستطيع القاهرة ممارسة دور فعال في سوريا، لكن بإمكانها القيام بدور مهم على الساحة الفلسطينية، فالتفاهمات بين فتح وحماس لا يجب أن تتوقف عند تشكيل لجنة إسناد مجتمعية لإدارة غزة، وعليها أن تمتد إلى مصالحة حقيقية ووضع رؤية توافقية للمستقبل، فكل الاتفاقات السابقة بينهما لم تعد لها أهمية كبيرة، فما حدث بعد الحرب على القطاع ولبنان والتوغل الإسرائيلي الجديد في الأراضي السورية يفرض التعامل بروح جديدة وتقديرات تراعي الانعكاسات السلبية الكبيرة على الفلسطينيين، والتي لا تصلح معها الحسابات الحركية الضيقة، حيث يؤدي التمسك بها في هذه الأجواء إلى فقدان الأمل في مواجهة التحديات المرصوصة على الأراضي الفلسطينية وما حولها.

أعادت القاهرة استئناف جهودها على مسار توقيع صفقة بين إسرائيل وحماس واستكمال مشوار التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة، كزاوية يتشكل من خلالها دور القاهرة، وبوابة يمكن أن تُفتح لعودة الزخم الجزئي للقضية الفلسطينية، فاستمرار الحرب يعني تجميد كل مفاصلها القديمة والحديثة، والتي حاولت مصر الحفاظ على حيويتها في خضم تطورات إقليمية يمكن أن تتجاوزها.

فالانشغال بالحرب على لبنان لم يهمل غزة، بينما تصاعد الأحداث في سوريا يمكن أن يهمل غزة والضفة، ويدخل القضية الفلسطينية في مصير أشد ركودا مما حدث عند اندلاع الثورة الأولى في سوريا، فوقتها كانت القضية محافظة على قدر من تماسكها، بينما الآن مشتتة، ومفاتيحها فقدت في غمرة الحرب على القطاع.

مهما كانت يقظة مصر السياسية والأمنية فمن المهم أن تطور دورها الأبوي الذي يؤكد الارتباط الوثيق بينها وبين ما يدور في الأراضي الفلسطينية، ما يستتبع بذل جهود خلاقة، قبل أن تعاد هندسة المنطقة على أيدي آخرين، وتسقط القضية الفلسطينية من الحسابات الإقليمية، وتظهر هموم أكثر وطأة، تجر إليها أنظار المجتمع الدولي، فالمسألة لم تعد قاصرة على تفاهمات أو مصالحة مهزوزة بين فتح وحماس، بل الالتفات إلى المصير الغامض الذي يجد الفلسطينيون أنفسهم فيه، داخليا وخارجيا.

◄ ما حدث بعد الحرب على القطاع ولبنان والتوغل الإسرائيلي الجديد في الأراضي السورية يفرض التعامل بروح جديدة

مهمة القاهرة أن تبحث عن روافع جديدة لها، عربية ودولية، لأن فكرة استقرار المنطقة يتوقف على إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية سقطت أو كادت، إذ انطلقت من واقع والمنطقة تعيش واقعا مختلفا الآن، خرجت منه قوى إقليمية كانت مؤثرة، مثل سوريا وإيران وحزب الله وحماس، وقد تدخل قوى أخرى.

انطلاقا من هذه الجزئية على العقل المصري أن ينتج رؤية تحافظ على قدر معتبر من حيوية القضية الفلسطينية قبل أن يزحف عليها المزيد من التآكل، وتفقد هويتها العربية، وإذا كانت مصر نجحت في تقليص دور إيران على حدودها مع غزة، فقد لا تستطيع ممارسة ذلك مع تركيا التي ترعى فصائل مسلحة أسقطت النظام السوري، ولها توجهات إسلامية ربما تعيد الحيوية إلى الجسد السياسي لحماس على الأقل.

وفي ظل البراغماتية التي يتمتع بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والتفاهمات الخفية مع إسرائيل، يمكن أن يصبح راعيا معدلا للفلسطينيين، ما يفقد القاهرة دورها المحوري بينهم، ويجبرها على الدخول في صدام جديد مع أنقرة من النافذة الفلسطينية التي تحلم الأخيرة بالسيطرة على مفاتيحها، حيث تمنح لها شرعية إقليمية مضاعفة تحتاج إليها لتضفي على نفسها شكلا إسلاميا براقا.

تسير الأمور في المنطقة باتجاه عكس ما أرادته القاهرة من أمن واستقرار وحفاظ على وحدة الدول وعدم المساس بثوابت القضية الفلسطينية، والمعادلة التي عرفتها القاهرة في المنطقة مقبلة على تحولات كبيرة، والتوازنات التي أجادت التعامل معها بين إيران وأذرعها وإسرائيل وأهدافها وتركيا وتقديراتها، والقوى الفلسطينية وتبايناتها، بدأت تدخل عليها تغيرات، تتطلب حسابات مختلفة.

◄ القاهرة قد لا تستطيع ممارسة دور فعال في سوريا لكن بإمكانها القيام بدور مهم على الساحة الفلسطينية فالتفاهمات بين فتح وحماس لا يجب أن تتوقف عند تشكيل لجنة إسناد مجتمعية لإدارة غزة

وأدخلت أطراف عدة تعديلات جوهرية في رؤاها، بناء على التطورات التي تموج بها المنطقة، باستثناء القاهرة لم تظهر علامات واضحة في توجهاتها، ولم تكشف عن تصورات تفيد بطبيعة الآليات التي سوف تتعامل بها مع ما يجري في المنطقة، فالعلاقة الأبوية مع الفلسطينيين جيدة عندما تكون الأمور مستقرة وفقا لما تم رسمه سياسيا منذ عقود، بينما المتغيرات الراهنة لا تخدم فكرة الأبوية، إلا إذا تم تطويرها بما يتوافق مع الأوضاع الراهنة وما سوف يتمخّض عنها من نتائج إقليمية.

قد يكون النظام المصري لديه من المرونة ما يساعده على فهم التحركات ومآلاتها، ويملك علاقات إقليمية ودولية جيدة، لكن الفرز الحاصل ليس بالضرورة تنجح القاهرة في التأقلم معه، لأنه يحمل مؤشرات لتغيير الأوضاع المستقرة منذ سنوات.

ودرجت مصر على استيعاب ارتداداتها بطرق مختلفة، في حين أن الروافد الجديدة قد تجلب معها حالة عصية على أدواتها المعتادة، فالتكيف أو التخريب أو خلق واقع مواز يمكّنها من القيام بدور يساعدها في الحفاظ على أمنها القومي، وبالتالي الدفاع عن مصالحها الإقليمية، التي بدأت تتعرض لعواصف من جهات متباينة، فربما نجحت القاهرة في استيعاب عواصف العراق واليمن والسودان وليبيا، لكن ما يجري في غزة ولبنان وسوريا قد يمثل أشد الحلقات قسوة عليها.

واحتاج الإفلات من المخالب السابقة جهودا مضنية، بينما الإفلات من المخالب الجديدة ربما لا يكتفي بأن يفقدها علاقتها الأبوية بالفلسطينيين، إن لم تجهّز خطة محددة للتعاطي مع مستجدات لم تعرف ملامحها من قبل.

9