ندوب الحروب وترانيم السلام

كم رقص أبناء الجنوب على إيقاعات الجوبي المتواشج من عزيمة أهل الغربية وكبريائهم ونخوة رجالهم، وكم تهادى صوت بنغم السويحلي إلى روح كردي يحتسي أوجاعه على رابية جبل كرمند ينتظر الخلاص.
الخميس 2019/02/28
لوحة مشاعر توحد وتثري الوجدان الشعبي

لا يمكن أن أتخيلها دون ذكريات خلفتها حروب أفقدتنا الكثير من الأصدقاء والمعارف وعشرات الآلاف من الضحايا، وشمت الأرض بهم ولم تكتفِ الحيطان والجدران وبين النخل وتحت الجسور إلا وُرفع عليها اسم شهيد عراقي.

لا أتخيل أن الموت قد استوطن في بلاد غيرها، وحياة توالدت في سواها، في وطن لا يعرف وجدانه غير أطوار الغناء والمواويل، وتتباهى مدنه بالحر والمقفى والزهيري والبوذية والدارمي، حين كانت الحياة تتراقص على إيقاع الجورجينا والخشابة والهوية وتنصت للمقام والمربع البغدادي، ويطربها النايل والسويحلي والسامري البصري، ويفاخر مثقفوها بأن كل مقامات الغناء خرجت من معطف عراقي ومن أداء حناجر الآلاف من أبناء العراق، وتأثر بها العالم العربي من المحيط إلى الخليج، تلك المدن والقرى والحارات العراقية التي يمتد نشيجها بامتداد نسيجها الاجتماعي، في الأقوام والقبائل والعشائر والشعوب التي خالطتها وامتزجت بثقافاتها وهضمتها وتمثلتها لتجعل ابن الجنوب تطربه ربابة بوتر واحد من الغربية، وينتشي الشماليون لنايل الحويجة ويطرب ابن الغربية وبطاحها حين يغني داخل حسن وحضيري أبوعزيز وناظم الغزالي وسليمة مراد.

يشدهم صوت لمغني المحمداوي الذي يأتي صداه من وجع سكان الأهوار في آخر الجنوب حين تشرق الشمس على بلاد سومر وأكد وبابل، وحين يمدّ طور الحياوي والغافلي والشطراوي عابراً للحدود البيئية في فضاءات مسامع أهل الغربية.

وكم رقص أبناء الجنوب على إيقاعات الجوبي المتواشج من عزيمة أهل الغربية وكبريائهم ونخوة رجالهم، وكم تهادى صوت بنغم السويحلي إلى روح كردي يحتسي أوجاعه على رابية جبل كرمند ينتظر الخلاص. كانت لوحة مشاعر توحد كل هؤلاء وأولئك وتثري الوجدان الشعبي، وتجعل الوطن كله أغنية ذاعت شهرتها في العالم العربي كله.

تقول حكمة سومرية كتبت بالخط المسماري “حيث ما تغمر المياه الأرض ينمو الخير وتخرج أجنحة السعادة إلى الوجود”. ما الذي فعلته تلك القوى المتصارعة على أرض العراق لتبطل سعادة الشعب وتمزق وعي المجتمع ورصانة تفكيره وجماليات ذوقه للفن والثقافة ليتحول مواطنو العراق إلى مجموعة ولاءات ومظلوميات واستحقاقات وكيانات وملل ونحل؟

لعل هذا الجيل المبتلى بانتمائه القسري إلى وطن النكبات والأحزان، نسي كل تلك التضحيات التي بذلها جيل آخر كان مشروع لافتة سوداء قد تجد لها مساحة في جدران بيضاء تؤبن شهداء وطن الغناء والتضحيات والفسيفساء التي فاخر بها الوطن ذات يوم. من كان وراء هذا الانحدار المخيف في وعي الناس وحول جماليات أرواحهم من سلطة الحب إلى سلطة الموت والترقب وتفكيك عرى الوعي الجمعي؟ من؟

24