نحن والقضية الفلسطينية والعارضة الخامسة

سأفعل مثلما جاء في المثل، فأطرُق الحديد وهو ساخن، كيف لا والآن قد عادت المسألة الفلسطينية لتُحرك الوعي لدى العرب والمسلمين على خلفية العملية الوحشية التي يقوم بها الكيان الصهيوني في غزة منذ ما يزيد عن شهرين.
ما هو الوقود العاطفي الذي لا يشك اثنان في أنه قادر على تحريك الإرادة الجماعية لكي تخلق سُبل الذود عن الرمز المشترك بين شعوبنا والتراث المشترك والتاريخ المشترك والأرض المشتركة والحضارة المشتركة غير الدين الحنيف؟
مع هذا، للأسف عرفت الحقبة التاريخية المعاصرة تغيير وجهة الدين فتحوّل من وقود للرقي الحضاري، خاصة بسبب بروز التيارات الإسلامية، إلى كتلة جامدة عاجزة عن شحذ الهمم وتوليد الأفكار التحررية والتقدمية، وبالتالي فالمطلوب فعله اليوم قبل الغد هو تطهير عقيدة المسلمين الخاطئة تجاه الدين الحنيف والتي حوّلته إلى كتلة جامدة. هذا لن يتم إلا بتخليص اعتقادهم الخاطئ من الغشاوة الإمبريالية الصهيونية التي استخدمت كل أساليب المغالطة وقيادة الرأي العالمي بواسطة بروباغندا شيطانية.
في هذا السياق، لا بد من التنويه أنّ نتيجة تغيير الوجهة التي آلت إلى تجميد الإسلام قد حملت المجتمع المسلم على تعويض الفشل في التحرك الإيجابي والفعال، فقط بفضل الزيادة في عدد الجوامع والمساجد وفقط بفضل الاستماع إلى الخطب الدينية ذات الوعظ والإرشاد لا غير، وفقط بفضل ازدهار المظهر الإسلامي وانتشار صيحات الموضة الإسلامية، بينما ليست هذه من الأفعال الكافية في مجال حُسن توظيف الدين الحنيف من أجل التحرر والتقدم.
◙ المسلمون اختاروا خطأً الهبوط إلى حيث العارضة الأولى والثانية برضوخهم إلى عمليات التشكيك في قدرة الإسلام على تمكينهم من التقدم لَكَأنهم يحاولون التأسلم من جديد
الدين مُجمَّد يعني أنه يدور في دوامة ملؤُها الفراغ لأنّ ما يحتاجه المسلمون اليوم ليس العمل على تطوير المظهر بقدر ما هو العمل على تحريك الجوهر وذلك بتوليد الرسالة.
لكي نفهم بيداغوجيا الرسالة قبل تحديدها لنا أن نتصور أنّ المراحل التاريخية التي مر بها الإسلام عبارة عن مصعد أو مدرج أو سُلّم ذي خمس عوارض. سوف نعاين أنّ العارضة السفلى الأولى للسُّلم كانت الوحي، والعارضة التي فوقها كانت نشر الرسالة الدينية والفتوحات، والثالثة كانت ترجمة العلوم من كتب الإغريق ثم توليد الفلسفات الجديدة وتطوير العلوم الصحيحة وازدهار الفنون والآداب، والعارضة الرابعة كانت الأندلس، حيث تم في حقبتها تقريب العلوم من المجتمعات الغربية إلى أن أخذت هذه الأخيرة المشعل الحضاري عن مجتمع المسلمين. لكن أين العارضة الخامسة، عارضة تناول الفلسفات المعاصرة حتى تُشتمّ منها رائحة المسلمين وتُرى فيها بصمة الذات المسلمة، عارضة تحرير الوعي من الطمس والتلجيم، عارضة تحرير المسجد الأقصى والأرض الفلسطينية السلبية.. ليست هناك عارضة خامسة بعدُ في سُلّم الصيرورة التاريخية لدى مجتمعاتنا وهذه هي أمُّ الإعاقات.
ماذا حدث بسبب افتقادنا إلى عارضة خامسة تُوجّه مسيرة مجتمعاتنا على الطريق الصحيح؟ الذي حدث هو أنّ المسلمين اختاروا خطأً الهبوط إلى حيث العارضة الأولى والثانية برضوخهم إلى عمليات التشكيك في قدرة الإسلام على تمكينهم من التقدم لَكَأنهم يحاولون التأسلم من جديد: دعوةٌ ففتوحاتٌ (التيارات السلفية المعاصرة من دعوة وتبليغ وغيرها)؛ إعادة الركوب على عارضة قد فات زمانها مع غض الأبصار والبصائر على الرسالة الناقصة حاليا، الرسالة الثقافية والأخلاقية والعلمية والحضارية: رسالة التسلق إلى حيث العارضة الخامسة، عارضة الشموخ.