نحن مستعدون لأن لا نرى شيئا في العمل الفني

في كتاب لامع حمل عنوان “ألا نرى شيئا”، حاول مؤرخ الفن الفرنسي دانييل أراس أن يجيب عن سؤال جوهري في معرفة دلالات الأعمال الفنية، مفاده: كيف يحدث ألا نرى ما يرسمه الرسام؟ وكيف يتكرر، أحيانا، في تفسيرنا للعمل الفني أن نضحي بعيدين منه تدريجيا؟ حيث تصمد اللوحة في غموضها.
التجأ دانييل أراس إلى حيلة استدلالية طريفة تعتمد محكيات قصيرة، بطلها شخصية تدعى “غويليا” تنخرط في محاورات طويلة مع شخصيات مختلفة، يكون موضوعها لوحة ما، أو ماهية عمل فني؛ وسرعان ما يخرج القارئ بمحصلة مفادها أن التشكيلات البصرية لا تحتاج لمترجمين، وإنما لأصحاب نظر، ممن يمتلكون حساسية الرؤية، فزائر المتاحف والأروقة لا يقرأ نصوص الكاتالوغات التقديمية ليرى، وإنما ليستوعب تحليلا للعمل أنتجه شخص مختلف عنه، وأن يقرأ تلك النصوص المطبوعة شيء بعيد عن رؤية ما يعرض أمامه.
هكذا تبدو وساطة النصوص وكأنها تعيد تأهيل العين، وتحول اللوحة إلى محكية، هل تحتاج العين لحكاية؟ احتمال مستبعد، إذ الأذن هي التي تستوعبها، ما تتطلبه العين هو القدرة على الاسترسال في التمعن، والانجذاب إلى المعروض في السند. فلا مجال للحديث هنا عن المتعة، فالسياق يتعلق أساسا بالاستدراج للتأمل، والشيء الأكيد أن اللوحات السوداء لفرانسيسكو غويا ليست مثالا فاتنا ولا جميلا، هي تجربة بصرية مرعبة، ومن ثم فلا يمكن الحديث في اللوحات والمنحوتات والتنصيبات المختلفة عن الجميل أو الفاتن فقط، وإنما عن العمق والمعنى، إنه الافتراض الذي يجعل تاريخ الفن، من وجهة نظر معينة، يتجلى بوصفه تخلصا تدريجيا من وظيفة الجميل، لحساب طبقات الدلالة، وانزياحا من الاستعارات الممتعة إلى الرموز المربكة.
في الكثير من الحالات توحي انطباعات المهتمين الهواة بالفنون البصرية، أنهم لا يثقون في بصائرهم، ليروا ما يعرض عليهم بشكل صحيح، أو أنهم لا يثقون في الأثر المباشر والتلقائي للأعمال التشكيلية، يتصورون أنها تنقبض على ألغاز، أو أن ما هو متاح لفهمهم ناقص في الغالب الأعم. لهذا فإن ترددات عدد كبير من زوار المعارض على الفنان لسؤاله بات سلوكا شائعا بعد تحولات الفن المعاصر التي أفقدته سلاسة الفنون الكلاسيكية والحديثة، وهو السلوك الذي يدفع إلى الاعتقاد بأن الفنان المعاصر مطالب بأن يكون متحدثا جيدا ومؤولا مقنعا، فضلا عن أن يكون فنانا بارعا، لأن أعماله تحتاج لعتبات لفظية، ومن ثم باتت تصريحاته وحواراته الصحافية، وكتاباته في حالات خاصة، بمثابة تسديد للنظر.
في رواية الكاتب الجزائري الفرنكوفوني كمال داوود الأخيرة “الفنان ملتهما المرأة”، يحكي السارد عن جولة في ردهات متحف بيكاسو في باريس، حيث قضى الليل مع أعمال فنان لا تسلم نفسها بيسر للعين، تشكيلات تتحول، دون كلل، إلى مفاهيم وتحليلات نظرية، تعيد تخييل حياة الرسام النسائية وعلاقاته المدمرة للأجساد والعواطف.
تنطلق كل تلك التفاصيل من خلفية للسارد ترى الأعمال قبل أن تستوطنها، وتحولها إلى محكية عن التهام رمزي لأجساد غير ناطقة، يلفها الصمت والتكلس والصراع المكتوم. وفي لحظة ما تنطلق رؤى جانبية للبطل القادم من مجتمع غارق في التدين، حيث يتحول الالتهام البصري إلى صدى لطقس التضحية والامتلاك الجسدي للنساء في الجنة، في النهاية، يتجلى البطل بما هو راء، يتأمل ويصف، ويعجن اللوحات بكيمياء ذهنية، تصير فيها اللوحة مجرد سطح، تتقلب فيه أصداء الذاكرة، يقول السارد في مقطع من النص ما يلي “أول درس يمثُل لكاتب، لم يتعود إلا نادرا على رؤية اللوحات،… هو: للتمكّن من التهام ذات متوله بها، ينبغي تحويلها إلى كيان بصري”.
يتجلى التهام السارد لمرئياته، في هذا السياق تحديدا، بما هو امتداد لالتهام الرسام لموضوعاته، حيث لا تتخايل المعاني خارج جدلية الرغبة والامتناع، الرغبة في الاستيعاب وامتناع الأثر، أو على الأقل تردده بين الإمكان والاحتمال، هل فعلا تقول لوحات بيكاسو ذلك النهم الكانيبالي؟ هو سؤال يشغل البطل في النص، ولكنه لا يشغل قارئ رواية كمال داوود؛ حيث إما أنه سيستمر وإما يتوقف، بالنظر إلى مدى نجاحه في انتشال الخيط السري الذي يلملم التفاصيل، ويمنحها طاقة الإمتاع، ذلك الذي لا محل له في تأملات البطل المتشوق إلى تركيب أطروحة عن الرسام الملتهم للنساء.
من هنا يتأكد مرة أخرى أننا لا نبحث في اللوحة عن تفاصيل سهلة، كما لا نزهد في امتناعاتها بيسر، يمكن أن نضع تفسيرا يسوغ الإصرار على الوقوف والتملي، حتى لا نقر في دخيلة أنفسنا بالعجز. وقد ننطلق مبدئيا من فرضية ترى أن للوحة معنى وعمقا، لأنها موجودة في متحف، ويجب أن نفهم ما تقول، استرشادا بمعارفنا وذاكرتنا ومعلوماتنا عن الفنان وتاريخ الفن والتيارات والأساليب. وهي طبعا كلها أشياء ثانوية في الرواية، التي ننسى حين ننغمر في تفاصيلها أغلب المعلومات المتصلة بكاتبها وعصره وتاريخ الرواية وأنواعها.
في مقطع شديد الدلالة من كتاب أورهان باموك “الروائي الساذج والحساس” يقول “عندما نحدق في اللوحة لا ندرك فقط العالم الذي تنتمي له اللوحة، بل ندرك أيضا ما شعر به هايدغر عندما شاهد العمل الرائع للفنان فان غوخ ‘زوج الأحدية‘: شيئية اللوحة، مكانتها باعتبارها شيئا. اللوحة تنقلنا وجها لوجه مع صورة العالم والأشياء داخله، لكن الرواية يمكنها مواجهة هذا العالم وهذه الأشياء فقط من خلال تحويل وصف الكاتب إلى صور في مخيلتنا… فن الرواية قد يقول: في البدء كانت هناك صورة”.